الأمن والاقتصاد مقابل السلام – بقلم: زينة منصور

أخبار عربية – مقالات

زينة منصور

في 17 أيار عام 1983 وقع لبنان اتفاق سلام مع إسرائيل وكان ثاني دولة عربية بعد مصر عام 1977 يقدم على هذه الخطوة بشكل واضح. إذ ينسى البعض أن الأردن ليست الدولة الثانية بل الثالثة بعد لبنان التي وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في وادي عربة عام 1994. وفي عام 1974 وقبل 3 سنوات من توقيع المعاهدة المصرية-الإسرائيلية، أبرمت سوريا اتفاق فصل القوات بينها وبين إسرائيل وهو اتفاق تعتبره نخب عربية عدة أول اتفاق سلام غير معلن بين البلدين وكامل المواصفات إذ بموجبه لم تطلق سوريا طلقة واحدة على إسرائيل من الجولان منذ قرابة الـ50 عاماً.

وقَّع لبنان اتفاق سلام مع إسرائيل طمح من خلاله نقل لبنان من موقع الحرب إلى السلام وتهدئة حدوده الجنوبية وإنهاء الصراع بين البلدين وجاء هذا الاتفاق في ظل الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت 1982. أُبرمت معاهدة السلام اللبنانية الإسرائيلية الشهيرة باتفاق 17 أيار في عهد الرئيس أمين الجميل والرئيس الأميركي رونالد ريغن ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. كان الاعتقاد لدى الأميركيين والقوى اللبنانية التي شاركت في إنجاز الاتفاق أنه يمكن عقد سلام بين لبنان وإسرائيل واستبعاد القوى الرافضة فانهار اتفاق السلام الذي استمر قرابة السنة.

ظنت أطراف لبنانية أن بإمكانها عقد سلام بين البلدين المتجاورين دون الأخذ بالاعتبار القضايا العربية واستبعاد القوى الرافضة داخلياً وخارجياً كسوريا ومن ثم إيران. سرعان ما ثبت قصور هذه الرؤية وظهرت قوة القوى الخارجية وتلاعبها بالساحة اللبنانية. فتدهورت الأوضاع في لبنان وسقطت معاهدة السلام وتصدر المشهد صعود قوى سياسية إسلامية في لبنان وازداد النفوذين السوري والإيراني وأدى اتفاق السلام إلى عكسه فتأججت الحرب الأهلية. وهنا تكمن دراسة فرضية عدم تكرار سيناريو السلام المتعثر الذي يقضي على فرص السلام في الشرق الأوسط.

اتفاقية الهدنة 1949

بعد حرب 1948 وقعت الدول المتحاربة مع إسرائيل على اتفاقات هدنة بشكل منفصل في جزيرة رودس اليونانية بوساطة الأمم المتحدة بين كل من مصر الأردن سوريا ولبنان وإسرائيل وفيها تم تحديد الخط الأخضر الفاصل بين إسرائيل ودول الطوق المحاذية.

في 23 آذار مارس 1949 تم توقيع اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل في رأس الناقورة وتضمنت الاتفاقية مقدمة و8 مواد وملحق بعنوان القوات الدفاعية. وفيها يتعهد الجانبان بأن لا يرتكب أي عنصر من قواتهما الدفاعية البرية البحرية والجوية بما فيها القوات غير النظامية أي عملاً عسكرياً أو شبيهاً به ضد قوات عسكرية أو مدنية في الجانب الآخر.

معاهدات السلام بعد الحرب العالمية الأولى

انتهت الحرب العالمية 1914 – 1918 بانتصار فريق دولي ممثلاً ببريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وخسارة فريق آخر ممثلاً بألمانيا النمسا المجر والسلطنة العثمانية. فُرضت على الأطراف التي خسرت الحرب اتفاقات سلام صنفها البعض بأنها كانت اتفاقات استسلام فنتج عنها قرن كامل من الحروب والاضطرابات والانقلابات. خسرت ألمانيا الحرب وفرضت عليها شروط قاسية لتحقيق السلام والاستقرار وذلك بتوقيع معاهدة فرساي 1919، إذ اعتبر توقيع الألمان عليها بمثابة التوقيع على الاستسلام. كانت النتيجة شعورهم بالإجحاف والرغبة في الانتقام. فبدأ ذلك يمهد لصعود التيارات القومية داخل ألمانيا التي اتخذت أشكال متطرفة ممثلةً بالحركة النازية وظهور هتلر وقيام الحرب العالمية الثانية 1938 – 1944.

يذكر دايفيد فرامكين في كتاب “السلام الذي يقتل كل سلام” أن معاهدات السلام والتسويات التي عقدتها الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى أدت إلى الفوضى والحروب والعنف لمئة عام مركزاً على منطقة الشرق الأوسط كما أوروبا فيما يربط الاتفاقات التي تبعت الحرب العالمية الأولى. فيعتبر أنها ساهمت بالقضاء على كل أشكال السلام.
أرادت الدول المنتصرة بعد الحرب كفرنسا وبريطانيا فرض رؤية معينة في الشرق الأوسط دون التفاهم مع الدول العربية والقوى الدولية وفرضت حدود جغرافية وحلولاً فوقية ورسمت خريطة الدولتين دولة إسرائيل ودولة فلسطين. كانت النتيجة أن الشرق الأوسط استمر يعاني من اللااستقرار والاضطرابات منذ اتفاق سايكس بيكو 1916 وتم تقديم نموذج لسلام أدى إلى محو كل فرص السلام ومهد لحروب طوال القرن العشرين.

العلاقة بين إسرائيل والدول العربية

مرت العلاقة بين إسرائيل والدول العربية بعد هزيمة 1967 ومن ثم انتصار تشرين أكتوبر 1973 بمراحل عدة، إلا أنها انتهت وتبلورت في المبادرة العربية عام 2002 في قمة بيروت والتي رفعها ولي العهد السعودي آنذاك الملك عبد الله بن عبد العزيز، وخلاصتها أن الدول العربية مستعدة لتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل بشرط ان تعيد إسرائيل الأراضي التي احتلتها عام 1967 أي هضبة الجولان والأراضي الفلسطينية وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا اللبنانيتين ومن ثم قيام دولة فلسطينية بجوار الدولة الإسرائيلية. يمكن اختصار هذه الصيغة بـ”الأرض مقابل السلام”، وهي تعرضت لهزة بعد ثورات “الربيع العربي” 2011، كما تعرضت عام 1990 مع غزو العراق للكويت الذي فتح على العالم العربي أبواب الجحيم وأخلّ بموازين القوى بين الدول العربية وإسرائيل من جهة وبين العرب وإيران من جهة أخرى.

القضية الفلسطينية والمتغيرات

طرأت متغيرات على القضية الفلسطينية لا يمكن إغفالها وهي أن فلسطين لم تعد القضية المركزية للعرب وتصدرت الواجهة قضايا أخرى كقضية سوريا واليمن وليبيا ولبنان والسودان وبرزت ثلاثة تهديدات وتحديات تحدق بالعالم العربي تجاوزت الصراع العربي الإسرائيلي، وهي إيران والجماعات الإسلامية الراديكالية المسلحة ومؤخراً تركيا.

صفقة القرن

في 28 حزيران 2020 أعلن الرئيس دونالد ترمب رسمياً اتفاقيات السلام برعاية أميركية أو “صفقة القرن” ما عكس هذه المتغيرات الجديدة وقدم للعرب صيغة مختلفة للسلام. فتغيرت معادلة المبادرة العربية في قمة بيروت 2002 من الأرض مقابل السلام إلى عرض أميركي – إسرائيلي جديد ينص على السلام مقابل السلام أي السلام مقابل الاستقرار والاقتصاد. ويقوم الاتفاق على الوصول إلى السلام مقابل تعاون إسرائيل ومن وراءها الولايات المتحدة على مواجهة الأخطار الثلاث التي تهدد كل من البلاد العربية وإسرائيل على حد سواء وهي إيران والجماعات الإسلامية المسلحة والدور التركي المتنامي.

اقتنعت غالبية الإنتليجنسيا العربية بهذه المقاربة وبأن قضية فلسطين لا يمكن حلها والأراضي العربية لا يمكن استعادتها بسبب الخلل بموازين القوى ونظراً للأخطار الاستراتيجية التي تحدق بالدول العربية فلا مانع من التعاون مع إسرائيل بعيداً عن الملف الفلسطيني وتعقيداته.

وكانت الخطوة اللاحقة تكمن في تمرير هذا المنطق لأوسع قاعدة اجتماعية ثقافية عربية مخنوقة بالأزمات منذ غزو الكويت 1990 وانتهاءً بالربيع العربي المأساوي 2011 وهي شريحة تؤمن أن إسرائيل عدو للعالم العربي ولم تقم بعد بإعادة الأراضي التي احتلتها. فتصاعد التركيز على الخطر الإيراني والتركي والمجموعات الإسلامية وانتهى التركيز على الخطر الإسرائيلي.

وظهر تيار فكري ركز على أن الفلسطينيين هم السبب للحيلولة دون تسوية القضية الفلسطينية وقد انتظر العرب سبعة عقود وتمهلوا وأجلوا النظر بالسلام بينهم وبين إسرائيل احتراماً لقضية فلسطين ما اجتذب حروباً لم تنته طوال 70 سنة. واعتبر هذا التيار أن فساد النخب الحاكمة الفلسطينية والعقوق الفلسطيني للعرب وأخطاء الفلسطينيين وعدم انتهازهم للفرص زاد في تعقيد “الصراع العربي – الإسرائيلي” وأصبح من الصعب حله فدخلت أطراف إقليمية لاستغلاله وأحدثت عدم استقرار في الدول العربية.

السلام وتجاوز فلسطين والجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا

كانت اتفاقات السلام المطروحة ما قبل الربيع العربي تقوم على منطق تسوية حقوق الأرض ومن ثم يأتي السلام. أما السلام اليوم يقوم على تجاوز تعقيدات الحقوق في أرض فلسطين والقضية الفلسطينية بتعقيداتها وهضبة الجولان السورية وتسوية تثبيت ملكية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانيتين ضمن ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا.

تضع كل من أميركا وإسرائيل بموجب صفقة القرن سقفاً جديداً لاتفاقات السلام مفاده أن أي اتفاق بين الدول العربية وإسرائيل أو مع فلسطين لن يلحظ مسألة القدس عاصمة لدولة فلسطين، ولن تتم فيه بحث مسألة إعادة القدس ولن يكون الجزء الأكبر من الضفة الغربية للفلسطينيين بل اليهودا والسامرة ولن يتم التطرق لملف عودة اللاجئين.

صفقة القرن ومصالح العرب

تختلف مصلحة العرب في صفقة القرن من دولة إلى أخرى. فعملية التفاوض على معاهدات السلام التي تجري الآن تقوم على إيجاد صيغة للتعويض للاجئين خارج الأراضي الفلسطينية وخارج إسرائيل دون البحث بما سيكون هذا التعويض، لكنه تعويض سيرضي الملايين من الفلسطينيين، علماً أن هذا الموضوع ليس الأولوية في زمانه. والأولوية هي للمضي في إبرام اتفاقيات سلام تعود بالنفع على الدول العربية لدرء الاخطار الثلاثة: المجموعات الإسلامية المسلحة، إيران وصعود تركيا.

تختلف المنفعة التي تحققها اتفاقات السلام بين دولة عربية وأخرى. فبعض الدول العربية يتوجب عليها أن تقوم بحل مشاكلها الداخلية وأزماتها الاقتصادية وانقساماتها السياسية والوطنية قبل إبرام اتفاقات السلام وذلك من أجل تمكين الوضع الداخلي من أي عملية اهتزاز أو دخول لاعبين إقليميين وذلك بأن تتم مساعدة الدول المتعثرة اقتصادياً وترتيب استقرارها الأمني والاقتصادي قبل توقيع السلام.

الخليج العربي وصفقة القرن

تمتاز دول الخليج العربي أقل معاناة من المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها بقية الدول العربية وهي اختارت التوقيع على معاهدات السلام مع إسرائيل من أجل تحقيق المزيد من التقدم والنمو والاستقرار في المنطقة. يبقى التحدي أن الخليج هو جزء من منطقة الشرق الأوسط ويصعب عليه أن ينعم بالاستقرار في ظل منطقة ملتهبة. والدليل أنه منذ اندلاع ثورات الربيع العربي لم تندلع أي من الثورات المماثلة في الخليج العربي لكن دوله تأثرت بشدة فيما يحدث في دول تبعد مئات الكيلومترات عنها.

الاقتصاد مقابل السلام

إذا كان التاريخ مرشداً وشاهداً يمكن القول إن اتفاقات السلام التي يتم فرضها من الولايات المتحدة وإسرائيل في ظل ظروف اقتصادية صعبة وعدم استقرار أمني وعدم مراعاة حقوق الفلسطينيين وإعادة الأراضي السورية واللبنانية ومراعاة حقوق كل الأطراف، قد تكون اتفاقات هشة لا تدوم طويلاً أو تتعرض للاهتزاز أو تتراجع عنها بعض الدول العربية نزولاً عند رفض القواعد الشعبية في ظروف معينة. ما قد يعرض الدول العربية في حال عدم تحصين هذه الاتفاقات بالاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي إلى فجوة بين الأنظمة والشعوب وإلى اضطرابات وربما حروب تكون نتيجة سلام أدى إلى قتل السلام.