بين البركان السوداني والأوكراني.. منعطفات مصيريّة

/ جورج علم /

شكّل الدخان المتصاعد من السودان سحباً كثيفة في فضاء العالم العربي، لكنّها لم تحجب الرؤية، بقيت الأولويات، أولويات، وتحديداً في الخليج.

تجري إتصالات وإجتماعات مكثّفة على مستوى وزراء خارجيّة دول مجلس التعاون الخليجي، وهناك إصرار على إنجاز المواعيد في أوقاتها. التاسع من أيار عودة الطواقم الدبلوماسية إلى كلّ من طهران، والرياض. السادس عشر منه تبدأ الإجتماعات التحضيريّة للقمة العربيّة. ويوم التاسع عشر، يفتتح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أعمال القمة محاطاً بملوك ورؤساء وأمراء الدول العربيّة، بعدها تستأنف ورش العمل نشاطها لإزالة المعوقات، والعمل على بناء تضامن عربي يحاكي تحديات المرحلة، ويواكب المتغييرات.


ومن الآن، وحتى موعد انعقاد القمّة، هناك محطات ثلاث:
الأولى، اختبار النوايا، والبدء بوضع الفول في المكيول، وتنفيذ ما تمّ التوافق بشأنه بين وزيري خارجيّة البلدين، الأمير فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان.
الثانيّة، انخراط دول مجلس التعاون، متفاهمين، متعاونين، متضامنين، في عمليّة الإنفتاح على إيران، وفق استراتيجيّة واضحة بعناوينها، ومضامينها.
لقد تضمّن إتفاق الصين تفاهما سعوديّاً ـ إيرانيّاً، لكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رفض الانتقائيّة، وطرح التفاهم على دول مجلس التعاون، وناقشه وزراء الخارجيّة تحت عنوان عريض “نذهب سويّة إلى الانفتاح، متكافلين متضامين، واستنادا الى خريطة طريق واضحة المعالم، أو لا نذهب البتة”.
الثالثة، التعويل على الاجتماعات التحضيريّة المكثفة التي تسبق موعد انعقاد القمة.


قبل اندلاع الاشتباكات في السودان، كان هناك إصرار من ولي العهد السعودي على أن يكون جدول الأعمال على مستوى التحديات، يقارب الملفات الساخنة، يتطرق إلى الواقع العربي المأزوم، ويوازن ما بين الإمكانات والإستعصاءات. كانت المبادرة العربيّة للسلام التي أقرتها قمّة بيروت في طليعة الاهتمامات، كونها سعوديّة، وطرحها في حينه الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان يومها وليّاً للعهد، ورئيساً للوفد السعودي المشارك. والإصرار على إحياء المبادرة، إصرار على بلورة موقف عربيّ موحّد في مواجهة التمادي الإسرائيلي في تهويد القدس، واستباحة الأماكن المقدسة، ومحاولات قضم الضفّة الغربيّة، والقضاء على مشروع الدولتين.


كما يأتي في طليعة الاهتمامات أيضاً الوضع في اليمن، وسوريا، وليبيا، ودول أخرى.
الجديد أن البركان السوداني إنفجر في توقيت ملتبس، ونفث دخانه في الفضاء العربي، وبدأ يلقى برذاذه الحارق على سياسة الإنفتاح في الخليج، ويثير علامات إستفهام حول الدوافع والخلفيات، ويكشف ملامح شبهات للمحرّضين، واللاعبين من وراء الستارة، وجلهم من الدول الكبرى النافذة التابعة للمحور الإسرائيلي ـ الأميركي ـ البريطاني ـ الأوروبي المنزعج من التمدد الصيني في الخليج، ومن التقارب السعودي ـ الإيراني، ومن المحاولات السعوديّة ـ الخليجيّة ـ العربيّة لإعادة سوريا إلى كنف الجامعة العربية.
لقد أرخى السودان المأزوم بثقله على القمّة العربيّة، والمواعيد، والإستحقاقات المرتقبة، والدليل أن الكل منهمك في سحب الرعايا، وبحث وضع السفارات، هل تقفل، أم تصمد؟ وماذا عن اليوم التالي، هل تسقط الأقنعة، ويكون ما جرى مجرّد غيمة صيف عابرة، أم الدفع بالسودان نحو التفتيت تنفيذاً للمشروع الذي أعدّه البريطاني ـ اليهودي، برنارد لويس، واعتمده الكونغرس الأميركي في 17 أيلول 2019، و”أدرجه في ملفات السياسة الأميركيّة الإستراتيجيّة للسنوات المقبلة”.


يرسم المشروع خريطة تفتيت للعالم العربي والإسلامي، ويقضي بالسودان الى دويلات أربع:
– دويلة النوبة المتكاملة مع دويلة النوبة في الأراضي المصريّة، وعاصمتها أسوان.
– دويلة الشمال السوداني الإسلامي وعاصمتها الخرطوم.
– دويلة الجنوب السوداني التي تمّ إعلان إستقلالها نتيجة الإستفتاء.
– دويلة دارفور الغنيّة باليورانيوم، والذهب، والنفط.
وتدور علامات إستفهام كبرى حول دور حكومة العدو الإسرائيليّ المتطرفة التي استغلت اتفاقيات التطبيع لتلعب بالملعب السوداني، وتحقق أهدافاً تخدم مشروعها التوراتي نحو قيام “إسرائيل الكبرى”!
وما تحاوله السعوديّة، ودولة الإمارات، ومصر، مع الدول الكبرى المؤثّرة، وفي طليعتها الولايات المتحدة، هو منع السودان من بلوغ خط اللاعودة، والإنزلاق السريع نحو الهاوية. وهناك أفكار، ومخارج حلول قيد التداول، للأمساك بالوضع قبل ان يخرج عن السيطرة، وتصبح المعالجات مكلفة.


وكشف الإعلام الأميركي تبايناً في مراكز القرار. ففيما تسعى الخارجيّة الأميركيّة إلى التهدئة، وتعتبر بأن الرسائل التي أريد لها أن تصل عبر الخرطوم، قد وصلت، وما على المعنييّن سوى الإتعاظ، يسعى “المحافظون الجدد” وبالتنسيق مع “اللوبي اليهودي” إلى الدفع بالأمور نحو الأدهى، مستغلين الإنتخابات الرئاسيّة المقبلة، والتي بدت تلاويحها في الأفق مع إعلان الرئيس جو بايدن عزمه على خوضها في العام المقبل.
ويلتقي بعض الأوروبييّن، المنغمسين بحرب أوكرانيا، مع “المحافظين الجدد”، لتحويل السودان إلى “أوكرانيا” الشرق الأوسط، لصرف الأنظار عمّا يجري في كييف، وإنضاج المبادرات الدوليّة المطروحة لوضع حد للبركان الأوكراني، والحدّ من الدعم المالي، الإقتصادي، والعسكري، الذي يستنزف أوروبا.
في موازاة ذلك، هناك إصرار من جانب محور دولي آخر على تبريد الرؤوس الحامية، وتهدئة الوضع في السودان، واستكمال مسيرة الانفتاح التي بدأت في الخليج، لتلافي خطرين:
– خطر الطاقة الذي سيتفاقم نتيجة حربين مكلفتين.
– وخطر الجنوح نحو حرب عالميّة ثالثة، ذلك أن إقتصاديات العالم لا تحتمل تداعيات جوائح ثلاث: “كورونا”، وأوكرانيا، والسودان الرابض فوق مفترق استراتيجي ما بين أفريقيا، وآسيا، وأوروبا.