كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
على الرغم من حلول شهر رمضان إلا أنّ واشنطن ما تزال تأمل بأن الوقت لم يفت بعد أمام تحقيق الهدنة المؤقتة في غزة، رغم التعقيدات القائمة. والرهان القائم يرتكز على أنّ الطرفين المعنيين أي حركة حماس وإسرائيل توظّفان الحد الأقصى من المهل الزمنية في لعبة المناورات التفاوضية.
ولذلك هنالك من يعتقد بأنّ حركة حماس التي تلوّح بورقة إشعال الضفة والقدس وربما الأردن طوال شهر رمضان وخصوصاً أيام الجمعة من هذا الشهر العابق بالمشاعر الدينية، وتطالب في المقابل بوقفٍ نهائي للحرب، وهو ما ترفضه حكومة نتنياهو إذ سيؤدي ذلك فوراً الى سقوط الحكومة وبقية القصة أضحت معروفة. لكن الأوضاع المأساوية للفلسطينيين في غزة والذين يعانون فعلياً من المجاعة والظروف الكارثية، ترفع من مستوى الضغوط لتحقيق هدنة مؤقتة تسمح بالتقاط الأنفاس.
لذلك ثمة تقديرات بأنّ حماس ستنتظر الدخول في شهر رمضان لتقوم بترتيب التفاهم المطلوب، وعلى أساس أن هذا التوقيت هو المناسب لانتزاع أفضل العروض. ولذلك فالاعتقاد السائد هو بقبول حماس بالهدنة المؤقتة في مقابل تراجع إسرائيل عن مطلب اللائحة الإسمية لكامل المحتجزين الأحياء لدى حماس.
في المقابل يرتفع منسوب التوتر أكثر فأكثر بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. فالإدارة الديمقراطية التي دخلت أجواء انتخابات رئاسية صعبة وشائكة، تبدو مُربكة أمام الرأي العام المصدوم من هول الكارثة الإنسانية لأبناء غزة. إذ لا يمكن في القرن 21 أن يشهد العالم على فرض مجاعة حقيقية على مواطنين عزّل يبيتون في العراء. وتقول مصادر في وزارة الخارجية الأميركية انّ الرئيس الأميركي أصدر تعليمات واضحة للطاقم الديبلوماسي بالتصدي للألاعيب السياسية التي يقوم بها نتنياهو. وهي من المرّات النادرة في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية التي يصدر فيها الرئيس الأميركي تعليمات بهذا الوضوح ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية. من هنا تضمينه خطابه السنوي الأهم قرار إنشاء رصيف عائم لتأمين المساعدات الغذائية للغزيّين، وهو ما وضعه المراقبون في خانة السعي لرفع الضغوط الداخلية عنه في ملف إنساني بحت.
لكن الأحداث التاريخية علمتنا أنّ الأهداف السياسية تبقى حاضرة حتى في المهام التي تحمل طابعا إنسانيا. فبعد أقل من 36 ساعة من خطاب بايدن، أبحرت سفينة متخصصة تابعة لبحرية الجيش الأميركي باتجاه الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهي تحمل المعدات الأولى لإنشاء رصيف مؤقت. كان ذلك يجري في وقت ترتفع فيه حدة المواجهات في البحر الأحمر، ما جعل البعض يلفت النظر الى «صراع البحار» الذي تقوم به البحرية الأميركية لإبقاء سيطرتها المطلقة على البحار.
والتوجه الأميركي لإنشاء رصيف عائم خبر لا يسرّ نتنياهو لكنه عاجز عن معارضته. كذلك فإنّ حماس التي ستطرح شكوكاً عديدة حيال الأهداف المبطّنة، لا تستطيع رفض الخطوة الأميركية كي لا تبدو ضد حصول الغزاويين على المساعدات.
ومصر أيضاً لن تكون مرحّبة ضمناً كَون الممر المائي الجديد سيشكل بديلاً عن معبر رفح وسيُضعف أهميته السياسية. صحيح أن الجيش الأميركي لن يعمد الى تركيز جنود له على اليابسة، لكنه سينشر زهاء ألف جندي على السفن لبناء الرصيف والذي سيستغرق زهاء الشهرين. ومن هنا لا بد من قراءة المشهد الجديد في شرقي المتوسط من الزاوية الإستراتيجية لا الإنسانية فقط.
ومنذ أيام معدودة أدلى قائد القيادة المركزية الأميركية العاملة في الشرق الأوسط (سنتكوم) بشهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ. والمعروف أن الجيش الأميركي، والذي يشكل ركيزة أساسية في صناعة القرار الأميركي، يُدلي في العادة بالموقف الأميركي الصافي والحقيقي من دون «ماكياج»، بخلاف وزارة الخارجية التي تتطلب مهامها تحقيق الأهداف ولكن بعد «بهرجة» ديبلوماسية ونظريات سياسية. وفي شهادته قال الجنرال مايكل كوريلا انّ المنطقة الوسطى (الشرق الأوسط) تواجه أوضاعاً أمنية هي الأكثر اضطراباً منذ 50 سنة. وأضاف أن إيران استغلّت ما اعتبرته فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة كل جيل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالحها من خلال استخدام وكلائها في العراق وسوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية واليمن. وتابعَ قائد السنتكوم قائلاً إنّ المنطقة الوسطى تظل ذات أهمية حيوية لإمدادات الطاقة العالمية، وتظل ضرورية لتدفّق التجارة العالمية. والقيادة المركزية توفّر عمقا استراتيجيا للدفاع «عن الوطن الأميركي». وانّ الأمن والرخاء الأميركيين معرّضان للخطر إذا «تنازلنا عن هذه المنطقة لإيران والصين والإرهاب».
شهادة كوريلا تعكس اهتماما اميركيا مُلحّا على المستوى الإستراتيجي. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الإمساك الأميركي المباشر بالساحل الشرقي للمتوسط والذي يعتبر أحد المداخل الأساسية للبر لمنطقة الشرق الأوسط من خلال أزمة غزة الإنسانية، وكذلك الصراع القائم في البحر الأحمر.
وخلال الأعوام الماضية وحين تراجع اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط وأزماته التي لا تنتهي، تسلّلت الصين الى المنطقة ووصلت الى مرفأ حيفا. وكذلك فعلت روسيا التي أصبح سلاحها معروضا على مصر ودول الخليج بعدما نجحت في تركيز قواعدها عند الساحل السوري. وإيران بدورها احتفلت في العام 2018 بوصولها الى شواطئ المتوسط عبر الساحل اللبناني بعدما حازت على الغالبية النيابية في عهد حليفها الرئيس ميشال عون. وعلى وَقع تراجع حضورها في المنطقة كان نفوذ حلفاء واشنطن يتراجع أيضا في الساحل الغربي لأفريقيا وهو المطلّ على القارة الأميركية الجنوبية حيث الدول المعادية للسياسة الأميركية. فلقد نجحت روسيا في دحر النفوذ الفرنسي ومن ثم وراثته، حيث أعلن مؤخراً عن تحالف عسكري وتشكيل قوة مشتركة بين قادة جيوش النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وسيعتمد هذا التحالف على روسيا من خلال فاغنر، بعدما كان يعتمد على فرنسا. وإذا أضفنا على هذه المنطقة ليبيا والسودان ودول أخرى يصبح النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط يعاني من الصين شرقاً وروسيا شمالاً وفي أفريقيا غرباً.
ووفق شهادة كوريلا فإنّ واشنطن تعمل لإعادة ترتيب المنطقة بشكل مُلحّ بدءاً من خطوة الإمساك بالممرات البحرية، والتي تعتبر مداخل لليابسة.
من هنا يمكن قراءة الإهتمام الأميركي بحرب غزة والصراع في البحر الأحمر إضافة الى الساحل اللبناني.
وبخلاف المواقف المعلنة فإنّ العلاقات الأميركية الإيرانية يمكن إدراجها في طبقات عدة ومفاهيم مختلفة. منها ما هو عقائدي وهو الأكثر ظهوراً على مستوى الأحداث، ومنها ما يحمل الطابع العملي أو الواقعي والذي يختبئ في غرف المفاوضات والتفاهمات كمثل ما يحصل في أروقة سلطنة عمان وأحياناً قطر.
فإيران كانت تتحاشى المَس فعلياً بمصالح واشنطن والعكس صحيح، وهو ما أدى الى ظهور تفسيرات عدة وامتعاض دول الخليج وفي طليعتهم السعودية.
اليوم تبدو الأمور مختلفة مع اندفاع واشنطن في تثبيت نفوذها من خلال إعادة رسم خارطة النفوذ السياسي في المنطقة. والكباش الحاصل مع طهران له علاقة بالحصص لا الذهاب الى مواجهة مفتوحة. والتوقف بشكل كامل عن استهداف القواعد الأميركية منذ أكثر من شهر أبرز دليل على ذلك.
والساحة اللبنانية لن تشذ عن الرؤيا الموجودة، وهو ما اختصَره الموفد الرئاسي آموس هوكستين بالقول: تسوية واحدة على مستوى المنطقة ولكن تطبيقها على أجزاء جغرافية مختلفة. وطبعاً لبنان هو أحد هذه الأجزاء الأساسية.
في الأفكار التي أودعها هوكستين للرئيس نبيه بري ما يتعلق بالمنطقة الجنوبية للمرحلة المقبلة وتكريس منطقة خالية من أسباب التوترات والنزاعات. وهو أوردَ ولو عرضاً ولكن بشكل متعمّد ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تتولى إدارة البلاد.
والموفد الأميركي الذي ينتظر هدنة غزة للعودة الى لبنان متفهّم لا بل مقتنع بشرط «حزب الله» بالتفاوض بعد حصول وقف النار، لكن النقطة الغامضة ما تزال حول كيفية تفاعل الجبهة اللبنانية في حال عودة الإشتعال الى جبهة غزة.
وهوكستين تحدث في بيروت عن إعادة إعمار الجنوب أي بتأمين الدعم المالي المطلوب والذي يفوق المليار دولار حتى الآن وفق التقديرات الأولية، لكنه يريد وقفاً ثابتاً لإطلاق النار مع الدخول في الترتيبات المطلوبة لجهة تثبيته وترتيب المعطيات الميدانية وتطبيق القرار 1701 من دون أي تعديلات، وإلا فهو غير قادر على ضمان القرار العسكري الإسرائيلي. وهذا ما قد يفسّر كلامه حول عدم الربط بين غزة وجنوب لبنان.
أما الإستحقاق الرئاسي فله توقيته في البرنامج المطروح. وهنا يصحّ السؤال عن الرئيس المنتظر، والذي من المفترض أن يضمن تطبيق الإتفاقات التي ستحصل بما فيها اتفاقات المساعدات على إعادة الإعمار. ويصبح السؤال ما إذا كان الرئيس هو من يسمّيه «حزب الله» أو من لا يعارض وصوله؟ والفارق كبير في التفسير السياسي بين النموذجين.
وبانتظار الوصول الى هذه المرحلة، والتي من المفترض ألا تكون ما تزال بعيدة جداً، تستمر الخماسية في اجتماعاتها والتي اتفق على أن تصبح دورية، بانتظار أن يصل الموفد الأميركي الى تفاصيل الملف الرئاسي. عدا ذلك هو حراك لملء الوقت، خصوصاً أن الاجتماعات الماضية شهدت نزاعا مضبوطا بين فرنسا المتمسّكة بدورها واستمرار حركتها وقطر الساعية لإنهاء الحركة الفرنسية على أساس فشل مهمتها، وتَولّيها هي إنجاز المهمة الرئاسية، فيما استعادت السعودية سلوكها الصامت بعد حركة ناشطة بدأت مطلع العام. أغلب الظن هي تريد إعادة ضبط ساعتها على التوقيت الأميركي.
ولكن قبل كل ذلك مصير هدنة غزة وانعكاسها على جنوب لبنان، وسط نصائح غربية للبنانيين بضرورة أخذ التهديدات الاسرائيلية على محمل الجد وعدم الإستخفاف بالجنون الذي يعيشه الداخل الإسرائيلي.