الوحيدة في التاريخ التي أطلق عليها لقب “ملك”

تُعتبر الملكة الجورجية تامارا واحدة من النساء الفريدات في العالم الذين تركوا أثراً كبيراً لدى شعوبهم، والتي مجَّدها الشعراء والمؤرخون وحتى رجال الدين الذين أدخلوا اسمها في التقويم الكنسي من خلال اللغة الجورجية، بسبب ما قدمته من مواقف بطولية، لدرجة أنها المرأة الوحيدة في التاريخ التي أطلق عليها لقب “ملك” بدلاً من “ملكة”.

ليُنقش اسمها بسبب تلك الفترة إلى الأبد في التاريخ الجورجي تحت اسم “العصر الذهبي”؛ نظراً إلى الازدهار الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي عاشته جورجيا تحت حكمها.

تامارا.. المرأة الوحيدة في العالم الذي أطلق عليها لقب “ملك” بدلاً من “ملكة”

وُلدت تمارا في عام 1166، والدها هو ملك البلاد جورج الثالث الذي ينتمي إلى عائلة “باغراتيون” الشهيرة، ووالدتها ابنة الملك ألانيان.

عندما كانت تامارا في العاشرة من عمرها، بدأت الاضطرابات في جورجيا بهدف الإطاحة بسلطة والدها جورج الثالث.

قاد الانتفاضة نجل أحد إخوة جورج وهو ديميتر، ووالد زوجته أوربيلي، الذي كان في ذلك الوقت القائد الأعلى للقوات الجورجية، قبل أن يقمع الملك التمرد.

منذ أن نشأت الفتاة في الأسرة دون إخوة وأخوات، قرر جورج ترك العرش بعد وفاته لابنته تامارا.

كان اعتلاء المرأة العرش مخالفاً للتقاليد الجورجية، فقام والدها بدءاً من عام 1178 بتتويج ابنته في منصب “ملك مشارك”؛ كي تشاركه في حكمه، وأيضاً من أجل وقف أي جدل بعد وفاته وإضفاء الشرعية على توليها العرش، وقد كان عمرها في ذلك الحين 18 عاماً.

كان أول قرار مشترك بينهما هو تبني عقوبة الإعدام لقُطاع الطرق واللصوص، وإنشاء مجموعة خاصة للبحث عنهم.

بعد 6 سنوات من دخول تمارا في الشؤون السياسية لدولتها، توفي والدها جورج الثالث، لتصبح الملكَ الوحيد لجورجيا.

ومع ذلك، لم يُقابَل عهدها بالدعم الكامل؛ نظراً إلى أن البلاد لم تكن لديه حاكمة من قبل، فقد شكك النبلاء في شرعيتها وحاولوا استخدام عمرها ضدها.

تم دفع الملكة الشابة إلى تقديم تنازلات مهمة للنبلاء، من ضمنها عزل المعينين من قبل الملك جورج وإعادة الطبقة الأرستقراطية إلى مركز السلطة مرة أخرى، وفقاً لما ذكره موقع Essay portal for all occasions الروسي.

الإصلاح الروحي للشعب قبل البدء في الحروب الخارجية

بدأ عهد الملكة تمارا بتحرير الكنيسة من الضرائب والرسوم، تم انتخاب الموهوبين لمناصب الوزراء والقادة العسكريين.

كما تميزت الفتاة بالدبلوماسية في تسوية قضية تغيير النظام السياسي في جورجيا، وحاولت إعادة التوحيد الروحي للشعب من خلال جمع الأساقفة والرهبان ورجال الدين، ودعوتهم إلى العيش في وحدة ووفقاً لتفسير الكتاب المقدس، كما طلبت من القديسين مد يد العون إلى كل أولئك الذين ضلوا الطريق الروحي.

زواج أول فاشل وثانٍ ناجح بأمير أوسيتي

وصلت المعركة بين الطبقة الأرستقراطية ورجال الدين ضد تامارا إلى ذروتها، بسبب أنها لا تزال غير متزوجة.

كان كثيرون في المملكة متحمسين للزواج بتامارا؛ في محاولة للحصول على العرش.

لذلك اقترح النبلاء عليها الزواج بأمير فيليكي نوفغورود الروسي، “يوري بوغوليوبسكي”، وبالفعل تزوجا، وبقيت تامارا الحاكم العام للمملكة.

أثبت يوري في بداية الزواج أنه قائد عسكري ناجح، وذو قيمة خاصة، لأنّ الملكة تامارا كانت لا ترافق القوات العسكرية إلا في جزء من الطريق دون أن تقودهم في المعارك.

ورغم ذلك لم ينسجم الاثنان في الحياة الزوجية، فقامت بتطليقه وطرده من المملكة في عام 1188، ليقوم بعد ذلك بعدة محاولات للانقلاب على حكمها، لكنها استطاعت دحر جميع محاولاته، وفقاً لما ذكره موقع World History التاريخي.

تزوجت بعد ذلك بشخص من اختيارها وهو الأمير الأوسيتي ديفيد سوسلان (يُعرف أيضاً باسم دافيت سوسلان).

كان ديفيد قريباً من تامارا وقد نشأ بالمحكمة الجورجية في تبليسي، مما جعله خياراً مناسباً، حتى لو لم تكن مملكة أوسيتيا قوية مثل الممالك الأخرى.

عكس الزواج مع يوري، كان زواج تامارا بديفيد ناجحاً فرُزقا بطفلين هما الملك المستقبلي جورج الرابع ملك جورجيا (المعروف أيضاً باسم جيورجي الرابع، حكم 1213-1223 م) والملكة روسودان.

سلام قصير الأمد مع صلاح الدين الأيوبي قبل بدئها الحروب مع العباسيين

قبل زواجها الثاني بفترة قصيرة، وتحديداً في عام 1187، استعاد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي القدس من الصليبيين.

ذكاء الملكة تامارا جعلها تُدرك أن استعادة القدس ستعيد القوة الإسلامية إلى القمة، فأرسلت على الفور بعثتين دبلوماسيتين إلى صلاح الدين، طلبت منه ضمان سلامة “دير الصليب” في جورجيا وإعفاءها من الضرائب مقابل السلام بين مملكة جورجيا والدولة الأيوبية.

بقيت مملكة جورجيا آمنة حتى العام 1192 عندما رزقت الملكة تامارا بطفلها جورج الرابع، ليقوم زوجها الأمير ديفيد سوسلان بإطلاق حملتين عسكريتين، استطاعت الأولى الاستيلاء على مدينة “بارداوي” العاصمة القديمة لألبانيا شرق القوقاز، ومدينة أرضروم في الأناضول.

رداً على ذلك أعلنت الدولة العباسية في بغداد الحرب على جورجيا، فأرسلت “نصرت الدين أبو بكر” وهو حاكم مسلم من سلالة إلديغوز في أذربيجان باتجاه جورجيا، فسيطروا على دولة شيرفان الموالية للجورجيين.

وفي عام 1195 التقى جيش العباسيين بجيش الجورجيين الذي كان تحت قيادة زوجها ديفيد سوسلان في معركة “شمكور”، وقد انتهت بانتصار الأخير الذي بدء زحفه نحو مدينة “كنجة” الأذربيجانية التي سيطر عليها، إضافة إلى مدينة ناخيتشيفان الهامة.

الانتصار على السلجوقيين في تركيا

كانت جورجيا في عهد الملكة تامارا في أقصى توسعها الإقليمي، مما أثار حفيظة السلطان السلجوقي ركن الدين سليمان شاه.

هاجم السلطان سليمان مدينة أرضروم في عام 1201 واحتلها، وأرسل خطاباً مهيناً إلى الملكة تامارا، واصفاً إياها بـ”الملكة البغيضة”، وطالب باستسلام جورجيا، كما عرض عليها إشهار إسلامها أو أنه سيحتل جورجيا ويأخذها سبيّة.

الملكة تامارا رفضت العرض، وطلبت من جيشها بقيادة زوجها “دافيد” الاستمرار في الهجوم جنوباً نحو المناطق السلجوقية وتحديداً مدينة أرضروم لاستعادتها.

التقى الجيشان الجورجي والسلجوقي في عام 1202 بمعركة “باسياني” على بعد 60 كم شمال شرقي مدينة أرضروم.

المعركة استمرت عدة أيام انتصر فيها الجورجيون الذين واصلوا هجومهم حتى تمكنوا من السيطرة أيضاً على مدينة “كارس” في عام 1206.

في عام 1207 توفي ديفي سوسلان، لكن الحملات الجورجية إلى الجنوب الشرقي استمرت بلا هوادة، كما امتدت حدود مملكة جورجيا مع دخول جيوشها إلى إيران حتى مدينتي تبريز وقزوين اللتين أجبر حكامهما على دفع الجزية للملكة تامارا.

من ناحية ثانية، كان لتامارا أخت تدعى روسودان متزوجة بمانويل كومنينوس، ابن الإمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الأول كومنينوس، ولها منه طفلان هما أليكسيوس وديفيد.

عندما تمت الإطاحة بأندرونيكوس في عام 1185، تم نقل الطفلين أليكسيوس وديفيد بعيداً عن القسطنطينية وهما الناجان الوحيدان من عائلة أندرونيكوس، لينشأ كل من ألكسيوس وديفيد في كنف خالتهما تامارا في جورجيا.

عندما بدأت الإمبراطورية البيزنطية تتفكك، ساعدت الملكة تامارا ابني اختها أليكسيوس وديفيد، على استعادة بعض أراضي جدهما السابقة وتحديداً طرابزون وساحل البحر الأسود حتى سينوب.

ليصبح ابن أختها أليكسيوس حاكماً على إمبراطورية طرابزون الجديدة، التي جمعتها روابط قوية مع جورجيا، مما يعني بالتالي توسيع نفوذ تامارا في تركيا.

إرث الملكة تامارا

في عهد تامارا، وصلت جورجيا إلى ذروتها الإقليمية والسياسية، شنت جيوشها حملة من طرابزون إلى إيران، وكانت جورجيا بلا منازع، قوة كبرى في المنطقة.

من شبه المؤكد أن تامارا هي أكثر حكام جورجيا إشادة في العصور الوسطى، وقد كتب عنها الجورجيون في العصور الوسطى والحديثة وعبّروا عنها.

تعتبر ملحمة الشاعرة المعاصرة شوتا روستافيلي، “الفارس في جلد النمر”، قصة رمزية إيجابية لعهد تامارا، وتشير بوضوح إلى أن “جِرو الأسد هو أسد سواء أكان ذكراً أم أنثى”.

على الرغم من عدم وجود سجل تاريخي لقتالها في المعارك، فإن صورة تامارا كملكة محاربة قد تم تناقلها أيضاً عبر بعض الأساطير الجورجية، إضافة إلى صور لها كإله أو قديسة.

كما طوَّبتها الكنيسة الأرثوذكسية الجورجية كقديسة بوصفها “الملكة تامارا المقدسة”، حيث يتم إحياء ذكراها في العيد بتاريخ 14 مايو/أيار من كل عام.

وحتى يومنا هذا يُعتبر اسم “تامارا” واحداً من أكثر الأسماء التي تطلق على الإناث في دولة جورجيا.

أمام سبب إطلاق لقب “ملك” على تامارا بدلاً من ملكة، فهو لأنّ كلمة “ملك” باللغة الجورجية ليس لها “جنس نحوي” عكس ما هو في اللغة الإنجليزية.

فيما بعد توفيت تامارا في عام 1213، ليتسلم ابنها “جورج الرابع” هذه الدولة القوية والذي بدا أنه مستعد لمواصلة إرث والدته كقائد لجورجيا، لكن للأسف وبعد عقد واحد من وفاتها وصل جيش مغولي مؤلف من 20 ألف جندي إلى جورجيا في عام 1220، وهزموا الملك جورج الرابع في معركة خونان على نهر كوتمان وأصابوه إصابة بالغة في صدره قبل أن ينسحبوا بسبب متطلبات الحرب.


وفي العام التالي 1221، هاجم المغول مجدداً مملكة جورجيا في معركة “بارداف” قرب مدينة “بردعة” في أذربيجان، وحققوا نصراً ساحقاً أبادوا فيه الجيش الجورجي كاملاً.

أما الملك جورج الرابع فقد أصيب في المعركة الثانية بجروح بالغة أيضاً، ليتجه بعدها مباشرة نحو أرمينيا لتأمين زواج أخته بشاه شيرفان؛ لحل المشاكل بين المملكتين، لكنه أصبح مُعاقاً هناك بسبب إصابته في المعركة الأخيرة، فتوفي في العام التالي عن عمر يناهز 31 عاماً فقط، ولتخلفه شقيقته “روسودان” في حكم جورجيا، كثاني امرأة تحكم المملكة.