تتضارب التقارير الميدانية عن فعالية العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا بين من يراها فشلا ذريعا للخطط الروسية للسيطرة على العاصمة كييف خلال أيام قليلة مع استسلام الجيش الأوكراني، وبين من يرى التقدم العسكري الروسي يسير طبقا لرغبة موسكو في عدم السيطرة واقتحام وسط المدن الرئيسية الأوكرانية المزدحمة بما فيها العاصمة كييف، على الأقل حتى الآن.
ولفهم آخر تطورات الأوضاع العسكرية داخل أوكرانيا، حاورت الجزيرة نت “جون سبنسر” (John Spencer)، أحد أهم خبراء ومنظري “الحروب الحديثة” (Modern Wars) و”حروب المدن” (Urban Warfare).
ويُعد القائد العسكري المتقاعد جون سبنسر أحد أهم المتخصصين في حرب المدن، وما يرتبط بها من تكتيكات عسكرية وتوازنات إستراتيجية.
وشارك سبنسر في العدد من الحروب الأميركية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وعمل مستشارا لكبار القادة في الجيش الأميركي كجزء من مجموعات البحوث الإستراتيجية في البنتاغون، ويُدرس في أكاديمية “ويست بوينت”، الأكاديمية العسكرية الأميركية الأبرز.
وبدأ سبنسر خدمته العسكرية جنديا في سلاح المشاة، وترقى ووصل لقيادة عدة فرق قتالية برتبة رائد، وقائد عدة سرايا، ثم عمل رئيس أركان في قيادة القوات البرية قبل أن ينتقل للتدريس والتدريب العسكري نائبا لمدير معهد الحرب الحديثة في أكاديمية ويست بوينت.
ويشغل سبنسر حاليا منصب رئيس وحدة “دراسات حرب المدن” في “منتدى ماديسون للسياسات”.
وفيما يلي نص الحوار:
- بداية، ما تقييمك العام لسير المعارك في أوكرانيا حتى الآن؟
بصفة عامة أتصور أن هناك مفاجأة كبيرة لنا نحن المتخصصين العسكريين تمثلت في بطء التقدم الروسي مع ما كنا نتصور أنها ستكون عملية خاطفة وسريعة. لكن بعد مرور أكثر من أسبوعين على بدء القتال، يبدو أن الجيش الروسي لم يجد بعد طريقة فعالة للتعامل مع المقاومة الأوكرانية الصامدة حتى الآن في العديد من الجبهات.
- ما أهم الأخطاء العسكرية التي ارتكبها الجانب الروسي؟
بلا شك كان هناك سوء تقدير أو خطأ مزدوج في الحسابات العسكرية الروسية سواء فيما يتعلق بتقديرهم لقوة الجانب الأوكراني، أو تقديريهم لقوة الجيش الروسي.
وربما يرجح سوء التقدير الأول إلى أخطاء أجهزة الاستخبارات الروسية فيما يتعلق بقوة وتجهيزات وفعالية مقاومة الجيش الأوكراني، كما أن هناك بلا شك أخطاء استخباراتية فيما يتعلق بتقدير المقاومة المدنية والقبول الشعبي بالقوات الروسية. يبدو أن الأوكرانيين متحدون في رفضهم للغزو الروسي لأراضيهم، وهذا لم تتوقعه موسكو ولم تضعه في حساباتها العسكرية.
الخطأ الثاني، الذي لا يقل خطورة عن الخطأ الأول، يتعلق بتقدير القيادة الروسية لقوة قواتها المسلحة الفعلية. ويعكس سير المعارك حتى الآن تضخيما ومبالغة روسية كبيرة في قدرات جيشها.
- ما مظاهر سوء تقدير روسيا لقدرتها العسكرية؟
لقد فشلت روسيا في فرض سيطرتها الجوية على ساحة القتال سريعا، وهذا الأمر ليس رفاهية عسكرية يمكن تجاهلها. ولا يستطيع أي طرف في أي حرب الانتصار دون السيطرة الكاملة على سماء ساحة القتال. لم تتعلم روسيا من حرب العراق، وضرورة البدء بهجوم جوي كاسح يشل المقاومة الأرضية ويشل مراكز الاتصالات والتحكم العسكرية فيما بات يعرف بإستراتيجية “الصدمة والرعب”.
كان على الجانب الروسي دراسة كيف تمكنت واشنطن من السيطرة على بغداد وهزيمة الجيش العراقي بسهولة بعدما سيطرت واشنطن بصورة كاملة على سماء العراق خلال أيام قليلة من بدء الهجوم.
ويمثل فشل روسيا في السيطرة الجوية الكاملة خطأ إستراتيجيا لا يغتفر.
- هل عدم السيطرة الجوية هو العنصر الوحيد في تحديد سير القتال؟
لا، فإلى جانب ذلك تعاني القوات الروسية من ضعف وفقر خطوط الإمداد والتموين، وهذا يدخل في نطاق الاستعدادات اللوجيستية للحرب، والتي لا تقل أهمية عن تخطيط عمليات القتال ذاتها. فمن دون تأمين مصادر الوقود والطعام ومياه الشرب للجنود، إضافة للذخيرة، يستحيل تحقيق أي تقدم عسكري، فخطوط الإمداد هي العمود الفقري للعملية العسكرية. ولا يمكن تجاهل انخفاض الروح المعنوية للجنود الروس الذين يغزون دولة جارة تجمعهم بها تاريخ طويل وروابط متعددة.
ولا تعني السيطرة الجوية فقط القدرة على شن هجمات بالطائرات، بل هناك أبعاد أخرى تتعلق بالتواصل مع القوات على الأرض وإرشادها من خلال عمليات الاستطلاع الجوي، وهناك أيضا دور هام لأجهزة الرادارات والتشويش ضد طائرات العدو.
ويتم التخطيط لجيوش حروب القرن الـ21 بما يسمى القوات المشتركة (Joint Combined Army) حيث تتفاعل كل مكونات قوة الجيش في تناغم من أجل تحقيق هدف واحد، وحاولت روسيا فعل ذلك، لكن يبدو أنها لم تكن قادرة على التنسيق الكامل، ومن هنا عادت للتقاليد والأساليب العسكرية القديمة.
- وما تبعات ذلك على سير العمليات القتالية؟
التوازن العسكري يميل وبشدة للجانب الروسي، وهذا واقع لا يمكن تغييره، فقوة النيران الروسية تفوق كثيرا مثيلتها الأوكرانية. وهناك نقطة أيضا يبدو أن الروس لم يتحسبوا لها تتعلق بطبيعة أوكرانيا، فهي دولة مزدحمة وبها الكثير من المدن والمراكز الحضرية، ولها حدود مفتوحة مع العديد من الدول، بعضها أعضاء في حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، وهو ما أثر على توافر خطوط توصيل المؤن والأسلحة والمساعدات الغربية بسهولة للجانب الأوكراني.
وهناك عامل شديد الأهمية لا تتطرق إليه تحليلات الخبراء السياسيين ويتعلق بالمناخ وكوننا في فصل الشتاء، وطبيعة الطبوغرافيا الأوكرانية التي جعلت من الصعب التقدم من خلال الغابات أو السهول الفسيحة، ولم يعد ممكنا التقدم إلا من خلال الطرق الرئيسية. من هنا لا يوجد بديل أمام الروس إلا أن يسلكوا الطرق الرئيسية، وهو ما تركهم هدفا سهلا للجيش والمقاومين الأوكرانيين.
- ما الهدف العسكري للقوات الروسية المهاجمة لأوكرانيا؟
لا شك في أن الهدف النهائي يكون سياسيا بامتياز، وأتصور أن إسقاط الحكومة الحالية برئاسية فولوديمير زيلينسكي، ووضع حكومة عميلة لموسكو هو ما يسعى إليه الرئيس فلاديمير بوتين، من هنا لا بد للروس من السيطرة على قلب العاصمة كييف. وربما يدفع ذلك بالرئيس زيلينسكي إلى الفرار أو ربما يتم اعتقاله أو اغتياله، وفي كلتا الحاتين سيكون ذلك صدمة كبيرة للروح المعنوية العالية لدى الشعب والمقاومة الأوكرانية.
- هل ستسيطر روسيا على كييف بسهولة؟
عدد قليل من جيوش العالم تتدرب بجدية على “حروب المدن” أو الحرب في مناطق مزدحمة بالمدنيين، أميركا وأستراليا وبريطانيا من الدول الرائدة في هذا المجال. وقد تسيطر روسيا على كييف، لكن ذلك سيتطلب موارد بشرية وعسكرية ضحمة من الجانب الروسي خاصة مع صعوبة الدفاع المحكم عن المدينة بسبب شبكة أنفاق المترو، التي ستستخدم لتهريب كل شيء من أسلحة ووقود ومقاتلين للمقاومة الأوكرانية داخل المدينة. لكن ربما يرى الروس في سيناريو حصار العاصمة بصورة محكمة بديلا مقبولا عن التوغل فيها، وهذا البديل حدث في معارك شهيرة مثل حصار سراييفو أو حصار الموصل.
- كيف ترى رفض واشنطن والناتو فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا؟
كان ذلك بداية طلب غير واقعي من رئيس أوكرانيا، خاصة بعدما أعلن بايدن مبكرا أنه لا يسعى لمواجهة مع روسيا بسبب أوكرانيا.
ولا يمكن لواشنطن أن تضع طياريها وطائراتها في مواجهة الطيران الروسي، ولا أتصور أن عدم تطبيق حظر الطيران يعني بالضرورة هزيمة للجانب الأوكراني. ولا أتصور أن تغير واشنطن موقفها في هذه القضية إذا تغيرت المعادلات على الأرض وتراجع الجانب الأوكراني، أو اقترب من الهزيمة.
مالذي يمكن أن يحدث ويغير موقف واشنطن وتتدخل مباشرة في الحرب؟
ربما تغير واشنطن موقفها حال استخدام السلاح الكيميائي من جانب روسيا، أو وقوع مذابح جماعية على نطاق واسع، وأكرر القول، ربما!
- وهل تتفق القيادات العسكرية الأميركية مع إدارة الرئيس بايدن في إدارته للأزمة الأوكرانية منذ بدء القتال؟
الجيش والقيادة السياسية متحدان وبشدة، فرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي مهني ومحترف، وهو يقدم للرئيس بايدن وأركان إدارته نصائحه العسكرية، ولكنه ينصاع في النهاية لاختيارات وقرارات القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الرئيس جو بايدن.
المصدر:الجزيرة