“إعاشة” موظّفي الدولة: رشوة انتخابيّة ستضرب الليرة

كتب علي نور الدين…..

لم تتّخذ لجنة المال والموازنة قرارها بعد بخصوص حجم المساعدة المعيشيّة التي سيتمّ اقتراحها لمدّة سنة لموظّفي الدولة والعاملين في الأسلاك الأمنيّة والعسكريّة، والتي تستلزم مشروع قانون جديداً ستتمّ إحالته لاحقاً إلى اللجان المشتركة. لكنّ المقترح الذي قدّمه تكتّل لبنان القوي، والذي تحرّك على أساسه الملفّ في لجنة المال والموازنة، نصَّ على منح موظّفي الدولة وعناصر القوى الأمنيّة والعسكريّة مساعدات لمدة سنة تراوح نسبتها بين 25% و45% من أصل الراتب، بحسب الرتبة وقيمة الراتب. ونصَّ المقترح نفسه على منح المتقاعدين 60% من قيمة هذه المساعدة المعيشيّة، بحسب الفئة الوظيفيّة التي تقاعدوا فيها.

بالنسبة إلى العاملين في القطاع العامّ، كان من المفترض أن يتمّ تصحيح أجورهم ورواتبهم للتعويض عن التراجع الكبير الذي لحق بسعر صرف الليرة اللبنانيّة، وعن معدّلات التضخّم في السوق. وكان من المفترض أيضاً أن يتمّ هذا التصحيح من ضمن إعادة هيكلة شاملة للميزانيّة العامّة، بما يضمن قدرة الدولة على تغطية الزيادة في الرواتب والأجور. وجميع هذه الخطوات لم تكن ممكنة بمعزل عن الخطّة الماليّة الأشمل، التي ستعيد هيكلة الدين العامّ وستقلِّص ما تستنزفه فوائد هذا الدين من ميزانيّة الدولة. ويختلف تصحيح أصل الراتب عن منح الموظّف “مساعدة معيشيّة” مؤقّتة لمدّة سنة، لأنّه ضمن استمراريّة التصحيح في الأجور، ويجعل الزيادة جزءاً من الأجر الذي يتمّ على أساسه احتساب تعويض نهاية الخدمة.

لكن بخلاف كلّ ذلك، تضمّن مقترح تكتّل لبنان القويّ، الذي تبنّته لجنة المال والموازنة وبدأت بالإعداد له، تقديم “إعاشة” مؤقّتة قبيل الانتخابات النيابيّة، ولمدّة سنة. ولا تكمن خطورة هذا المقترح في عدم تأسيسه لحلٍّ مستدامٍ بالنسبة إلى موظّفي القطاع العامّ فحسب، بل وفي عدم وجود أيّ تصوّر لدى اللجنة لكيفيّة تمويله في ظلّ نسبة العجز المرتفعة في الميزانيّة العامّة، ولذا سيأتي التمويل عمليّاً من خلال الاقتراض من مصرف لبنان، أو بالأحرى من خلال طبع المزيد من النقد لدفع ثمن هذه “الإعاشة”. أمّا الكلفة النهائيّة لهذه الخطوة العبثيّة، فستكون على عاتق سائر المقيمين، من خلال التهاوي الذي سيلحق بسعر صرف الليرة اللبنانيّة.

وفقاً لأرقام وزارة المال، بلغت قيمة رواتب موظّفي الدولة والأسلاك الأمنيّة والعسكريّة المدفوعة في الربع الأوّل من هذه السنة نحو 1,432 مليار ليرة لبنانيّة، أي نحو 5,728 مليار ليرة معدّلاً سنويّاً. وإذا أخذنا نسبة 35% من أصل الراتب معدّلاً وسطيّاً لهذه المساعدة المعيشيّة، فستكون كلفتها لمدّة سنة نحو 2,000 مليار ليرة لبنانيّة، بالنسبة إلى الموظّفين الحاليين. يُضاف إلى هذه القيمة نحو 1,010 مليارات ليرة كلفة سداد المساعدة المعيشيّة للمتقاعدين، وهو ما يجعل كلفة المساعدة المعيشيّة لمدّة سنة للموظّفين الحاليين والمتقاعدين معاً نحو 3,010 مليارات ليرة لبنانيّة
من شأن هذه الكلفة الإضافيّة أن ترفع كلفة كتلة الرواتب والأجور السنويّة المتوقّعة من 8,616 مليار ليرة لبنانيّة إلى 11,626 مليار ليرة، بنسبة تبلغ 35%. أمّا أهمّ ما في الموضوع فهو كيف أنّ هذه الكتلة النقديّة، التي سيتمّ خلقها لسداد الأجور والرواتب لمدّة سنة، ستزيد الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في السوق بنسبة 29%، مع كلّ ما يعنيه ذلك من ضغط قاسٍ على سعر صرف الليرة اللبنانيّة. وستساهم الاستدانة من مصرف لبنان لسداد قيمة هذه المساعدة المعيشيّة في زيادة نسبة العجز في الميزانيّة العامّة، وستؤدّي إلى تضخّم حجم الدين المستحقّ على الدولة اللبنانيّة لمصلحة مصرف لبنان، الأمر الذي سيُعقِّد إعادة هيكلة الميزانيّة والدين العامّ في إطار خطّة التعافي الماليّة.

وتكمن الأزمة الفعليّة في أنّ المقترح يعطي موظّفي القطاع العام حبّة مسكّن مؤقّت للتخفيف من أثر التضخّم وتآكل قيمة أجورهم، في حين أنّ هذا الحل لا يقدّم أيّ معالجة لسائر المقيمين الذين يعملون في مؤسسات القطاع الخاصّ. لا بل على العكس تماماً، سيقوم هذا الحلّ بتحميل جميع المقيمين أثر خلق المزيد من النقد لتغطية كلفة المساعدة المعيشيّة الجديدة. وعلى الرغم من جميع المداولات التي تجري اليوم لرفع الحدّ الأدنى لأجور موظّفي القطاع الخاص، لا يبدو من هذه النقاشات أنّ المؤسّسات الخاصّة ستكون قادرة على تحمّل تصحيح جدّيّ في أجور عمّالها وموظّفيها.

لكلّ هذه الأسباب، لا يمكن اعتبار المساعدة المعيشيّة المطروحة اليوم سوى دعاية انتخابيّة يُراد منها كسب ولاء جزء من شريحة موظّفي الدولة والمؤسّسات الرسميّة، الذين يناهز عددهم 300 ألف شخص.

أمّا الحلّ الفعليّ فيبدأ بتحريك ملفّ البطاقة التمويليّة، التي لا يبدو أنّها ستبصر النور قريباً، لتكون حلّاً مؤقّتاً يوفّر الدعم بالدولار النقدي، ولا يضرب سعر صرف الليرة في السوق الموازية.

أمّا الحلّ الفعليّ والجدّي فيكون في معالجة أزمة تراجع سعر الصرف، كجزء من الخطّة الماليّة الأشمل التي يُفترض أن تعيد هيكلة الميزانيّة العامّة، بما يسمح بتصحيح الأجور في المستقبل من دون زيادة وتيرة الاستدانة من مصرف لبنان