أنا مواطن لبناني قتل والديه بفيروس كورونا – بقلم: كريستابيل نجم

أخبار عربية – مقالات

كريستابيل نجم

أنا مواطنٌ لبنانيٌّ، قادمٌ من بيروت الجريحة، أناهزُ الـ26 من العمر وحائزٌ على شهادةٍ في الهندسة المعمارية، أقفُ خلفَ أبوابِ المحكمةِ الجنائية جاحظًا، متهاديًا بإسمِ الموتِ مصبرًّا حتّى أسلِّمَ نفسيَ الحزينةَ للعدالة. أضحيتُ مجرمًا هزيلًا، قتلَ والديهِ عمدًا وانتشلَ روحَهما الطّيبة بين ليلةٍ وضُحاها. أصبحتُ يتيمًا بمشيئَتي، أردتُ أن أعيشَ طليقًا حرًّا، متنعِّمًا بحياةٍ من الرّفاهية والسّلام بعيدًا عن الجلساتِ العائلية المملّة.

غادرتُ المنزلَ بلباسٍ أنيق وأريجُ العطرِ يفوحُ المكانَ بأكمله، متلهفًا للقاءِ أصدقائي القدامى فنودِّع السنة سوّيًا بالرقصِ والدردشةِ اللامتناهية. قبَّلتُ والدايَّ ولكنّني لم أُتقنْ بأنّها قبلةَ الوداع الأخيرة. نظرَت أمّي إليّ وقتها بنظرة من الحسرةِ والقلقِ، من ثمَّ هتفَت بأذناي قائلةً: يا أغلى ما أملكُ في هذه الدّنيا قُدْ سيارتَك بحذرٍ وانتبه لنفسك، عُدْ إليَّ سالمًا. ضحكتُ آنذاك في وجهها وتوجَّهتُ نحوَ الباب مسرعًا دون أن أودِّعَ والدي، فقد كان رافضًا لذهابي وقتَها وغاضبًا لعصياني له فلم أتوجّه إليه بكلمة. لاقيتُ أصدقائي وسارَت الأمسيةُ كما أردناها، بعدها عُدنا إلى منازلنا سالمين.

مرّ اليوم الأوّل، اليوم الثاني والثالث، بعدها تلقيتُ اتصالًا هزَّ كياني وكأنّني أُلزمتُ بارتكابِ جرمٍ ما خارجَ إرادتي، فأحدُ أصدقائي الّذي كنتُ بجانبه طوالَ الأمسيةِ تلكَ قد تمّ تأكيد إصابته بفيروس كورونا المنتشر. وقفتُ صامتًا مصدومًا وقلبي لا يتأجّج عن الخفقان، بدأَت الدموع تسيلُ من عينايَ وغدوتُ أكلِّمُ نفسي وألومها. أَأُخبرُ والدايَّ فورًا؟ أأنا مصابٌ أيضًا بهذا الوباء؟ أوَثقتُ بأصدقائي غافلًا مدى خطورة الوضع؟ وماذا إن أصابَ أهلي مكروهًا، أأكون أنا السبب؟

غادرتُ المنزلَ دون أن أحرِّك ساكنًا وتوجَّهتُ فورًا إلى المستشفى لإجراءِ فحصِ الكورونا وهنا كانت الدهشة، أطنانًا من البشرِ ينتظرون دورَهم لإجراءِ الفحصِ بكلِّ تأنٍّ. أصواتُ سياراتِ الإسعافِ بدأت تندفعُ بشراسةٍ وكأنّها أوكلَت بمهامِ التنبيه من خطرٍ ما قادمٍ يعاندُ الزَّوال.

أنا مواطنٌ لبنانيٌّ قادمٌ من بيروتَ الجريحة، أصبتُ بفيروس كورونا فنقلتُ العدوى إلى والدايَّ الّذين يعانيا من مشاكلَ صحّية جسيمة. وقفتُ خلفَ أبوابِ المستشفيات لأيّام عدة كسائر البشر، أناشدُ الخلقَ لإعانةِ والدايَّ فورًا ولكنّهم لم يستقبلونهما نسبةً لعدم تفرّغ الأسِّرَّة وماكينات الأوكسيجين.

أنا ولدٌ يتيمٌ مفجوع، غادرَ منزله يومًا فارتكب جرمًا فادحًا تجاه والديه والمجتمع، فقد ساهمتُ يا سيدي القاضي بنشرِ الوباءَ، فأرجو من حضرتك أن تساهمَ بنشرِ قصّتي حتّى تكون عبرةً إلى كلّ من خال بأنّ هذا الوباءَ ملفقٌ أو أنّه لا يعدي ولا يودي بحياةِ الناسِ فغادرَ منزله ليرتكب جرمًا آخر.