4 أشهر على الانفجار وبيروت مجهولة المصير – بقلم: كريستابيل نجم

أخبار عربية – مقالات

كريستابيل نجم

‎‫غَيَّبكم الموتُ يا أبناءَ الوطنِ أَطنانًا فصمدتُم أرواحًا مظلومةً على طيّاتِ صفحاتِ الزَّمن صامدةً وهي غيرَ منسيةٍ ولكنَّها تَلاشت مع هطولِ المطر. ذِكراكُم باتَت تَئِنُّ بِمنحتوتاتٍ أثريةٍ خَلَفَتها النُدّوبُ الخجولة، الطُرقاتُ المَهدومةُ الوعرة، الأبنيَةُ المهجورةُ المُدمرَةُ والحجارةُ المَرميةُ أرضًا والتّي اجتَزأت خَلفَها دماءَ ضحيةٍ ما غطتها بثِقلٍ فَشيَّعَت أَنفاسَها الأخيرة. أربعةُ أشهرٍ وبيروتَ عروسَ لبنانَ المُرمُلَّة مَنكوبةَ الأجل، مَجهولةَ المصيرِ بِلا هويةٍ فِعلية، تَصرُخ كَطفلٍ ضالٍّ بصوتِ شهداءِ الوطنِ: “أمّاهُ لا تبكِ فَدمعُك غالٍ، دَعيهِ في مُقلَتيك، خَزِّنيهِ ليومِ رُجوعي، خَبئّيهِ في جرار، عَتِّقّيهِ كالنَّبيذِ وازرُفيهِ فرحًا”. والويلُ لِأُمةٍ أَسكَنَها الشّرُ ثَوبَهُ الأَسودَ فَوَكَّلَ نَفسَهُ إِحاطتِها بسياجِ شوكٍ يَرسُمُ حُدودَها على هَواه فَيُبقيها أسيرةً له مُكبَّلة اليدين، حانِيةَ الرأسِ ومَعدومَةَ الحيلة.‬

‎‫وَيحَكَ يا من جعلتَ من قلبِ أمٍ يَضُخُّ دَمًا على فُراق أَحِبّائِها فَقَلبُها مُقدسٌّ مكرَسٌّ لِلجنينِ الّذي حَملَتهُ مسبقًا في أحشائِها وكانَ أمانَةَ الرََبِ لها لِحفظِهِ وَصَونِهِ من أيّ أذًى قد يَلحَقَهُ، وَيحَكَ! قَلبُ أُمِّكَ يَنزُفُ وقد اجتُزأ من كيانه. ولو تَأمَلنا الشَمسَ والقمرَ بينَ الحينِ والآخرَ وهما يتبادَلانِ الأدوارَ خلالَ اليومَ الواحِدِ لَوَجدنا نورًا فعليًّا، تارةً يُنيرُ طُرُقاتِنا الوَعِرَةَ ويَفيضُ نورًا مُنمنمًا داخِلنا وطَورًا يُضيءُ دُروبنا المُعَتَّمةَ وغُموضِها، فَوراءَ كلِّ كارثةٍ فَرَجٌ وبعد كلِّ عذابٍ رحمة. وكما يُضيفُ عِلمُ النفسِ إلى جانبِ الثَّغراتِ المُعلَنَةِ عن حالةِ الفردِ النَفسيَّةِ بعدَ أيّ انفجارٍ تَشهدُهُ عَيناه، بعدَ خسارَةِ من شارَكَهُ الحياة مَعرفَة، قَرابةً أم عشقًا، بعد تَهجيرِهِ من مَسكَنِه الّذي أَواه منذُ الصِّغر، بعدَ أيَّة صدمةٍ مُرعبَةٍ فُجائيَةٍ أَفاقَت مَخاوِفَه، فهنا تكونُ الآثارُ النَفسيةَ على الفردِ طَويلة الأمد.

وقد يُعاني البعضُ أي ما يعادلُ الـ9%؜ مِنهُم من إكتئابٍ حادٍ بمُختلفِ فِئاتِهم العمريَّةِ ممّا يُؤرِّخُ الرُضوخَ إلى اضطرابٍ فعليّ بعد أيَّةِ صدمةٍ قد تَعرَّضوا لها ولو حتَّى عن قرب. وقد حدَّدَ عُلَماءُ النَّفسِ أنواعَ الإكتئابِ المُختلفةِ على أنَّها تَتوافَقُ بِمراتِبَ مُتتاليةٍ أَبرزُها اضطرابُ القلقِ المُرهق وهو عبارةٌ عن قلقٍ بالغٍ مزمنٍ إلى جانبِ إحساسٍ مُفرطٍ بالخطرِ الشديدِ رُغمَ أنَّ الجوَّ من حولِهم قد يكونُ آمنًا سالمًا بمُختلَفِ مَعاييره. وكما يَستمرُّ هذا الإضطرابُ إلى ما يُعادِلُ الستَةَ أَشهرٍ ومن ثُمَّ يَبدأُ وَهجَهُ بالإضمحلالِ شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت. وبحسبِ علمِ النَّفسِ فإنَّ الفردَ قد يُساوِمُ التَجنُبَ في هذه المرحلةِ المُحدَّدةِ أي اللّامبالاةِ العاطفيَةِ فيِعاني من فقدانِ الذاكرةِ للحدثِ الصادمِ ويعتكفُ الصمتَ وعدمِ البَوحِ بما يجولُ في بالِهِ من مشاعرٍ أليمة، إمّا يَخضَعُ لإعادَةِ التَجرُبَةِ بخلافِ وُجودِ كَوابيسَ متكرِّرة. إضافةً إلى معاناتِه بصعوبةِ التَّركيزِ وإصابَتِهِ بنوباتٍ من الغضبِ والقلق، قد يشعرُ الفردُ بالذَّنب، بالإغماءِ والصُّداع. بعيدًا عن العلاجاتِ الدَّوائِيةِ المُناسبةِ التّي باستطاعةِ الأطباءِ المُتخصصينَ وَصفَها، إلّا أنَّ الفردَ بإمكانِه زيارةَ مراكِز َالعلاجِ النَفسيّ ومُشاركَةَ مَشاعرِهِ تلكَ ومُناقَشتِها مع أشخاصٍ مُختلفينَ عنهُ ولكنَّهم يُعانونَ ذاتَ اضطرابِهِ فلا يَشعُر بالوحدة. وقد يُساهِمُ العلاجُ النفسيُ تشجيعَ المريضِ اجتيازَ الصدمةِ وأعراضِها وبالتّالي مُواجهَةَ مَخاوفه.

لبنانَ أصبحَ يابسةً عَطشةً لا أرضًا محمولَةً بالنَباتات، الأشجارُ الخَضراءُ والأبنيةِ السَّليمة. كانَ مَوطنًا مُسالِمًا صالِحًا فَشابَه المَذبحَة الأرمنيَةُ دِماءً ومن ثمَّ موتًا وشهادةً. تَرَصَدَت الدُّوَلُ الأخرَى له تعريفًا مُصدَّقًا بأنَّه الحَلقَةَ الأضعفَ وبأنَّ الفَسادَ أَوهَمَهُ الطُغيانُ والظُلم، حَرقُ أرواحِ مواطِنيهِ سُدًّا. ومن أَحدِ أقوالِ تشي جيفارا الشهيرة: “لم أَكُن أَتصوَرُ بأنَّ الحُزنَ يُمكنُ أن يكونَ وطنًا نَسكُنه، نَتكلمُ لُغتَهُ ونَحمُلُ جِنسيتَهُ”.