كتبت د. ليلى شمس الدين
منذ البارحة وأنا أتابع بدهشة حينًا وبانزعاج أحيانًا، طلب إدارة متجر الـ ABC استبدال سمية بفتاة لا ترتدي الحجاب، لسياستها التي عزتها في بيانها حول الحادثة إلى “عدم إبراز أيّ شعار ديني، أو حزبي أو سياسي لأي فئة انتمى”.
وسأترك التعليق لكم حول هذا التبرير الذي أراه غير مقنع ولا منطقيًا لأسباب وأسباب لست في وارد الخوض فيها الآن.
فكّرت كثيرًا قبل أن أكتب، وتردّدت بين أن أهمّ في الكتابة أو عدمها. وبعد ما قرأت من تجاذبات وتعليقات حول هذا الموضوع، قررت الخوض فيه على طريقتي. وها أنتم تقرأونه الآن. الموضوع في حدّ ذاته، من وجهة نظري، صادم ومرفوض، وهو أمر لا نقاش حوله.
كما أراه تصرّفًا عنصريًّا بامتياز، وهنا أيضًا لا نقاش حوله، بالنسبة لي طبعًا. الموضوع يا سادتي لا أراه موضوع حجاب أو رمز دينيّ، بل هو قضيّة كبيرة يجب أن نثيرها من جوانب متعدّدة.
ربّما يعرف كثيرون منّا أنّ هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها في لبنان على الأقل، وهي بالتالي ليست جديدة أو مستجدّة مع الأسف. فمنذ أكثر من عشرين سنة، وكُثُر يستبعدون الفتاة المحجّبة من علاقاتهم الإنسانية حتى، لا لشيء، سوى لأنّها محجّبة. يحدث هذا الأمر في المؤسّسات التجارية، كما التربويّة وغيرها من المؤسّسات الاجتماعية والإنسانية على حد سواء. لا لشيء في رأيي، سوى لأنّهم ينظرون إلى ما على رأس المحجّبة، لا إلى ما هو داخل رأسها من معرفة وفكر وثقافة، ولن أتعمّق في فلسفة هذه الفكرة ومنطلقاتها كما أبعادها وتأثيراتها لأنّ مقصد كتابتي أمر آخر.
وإذا ما استذكرنا بعضًا من هذه الممارسات، لن تكون بدايتها من إدارة السوق الحرّة في مطار بيروت التي تفصل العاملات لديها فور ارتدائهنّ الحجاب مهما كان عدد سنوات خدمتهنّ، مرورًا بشركات ومؤسّسات ترفض المحجبات في العلن بسبب لباسهنّ، وليس انتهاء بالوسائل الإعلامية التي لا تتيح للأنثى المحجّبة أيّة فرصة للتواجد في عداد موظّفيها. ما أحببت الإشارة إليه اليوم، هو أنّ ما كان يحدث في هذا الإطار من تصرّف تمييزيّ عنصريّ تجاه الفتاة أو المرأة المحجّبة عمومًا، لم يكن يأخذ صداه إعلاميًا، فتوأد القضية في دائرتها الضيّقة دون أن تتوسّع دائرة تردّداتها.
الفارق هذه المرّة ربما، أنّ هذا التمييز العنصريّ حصل في مركز تجاريّ هو من الأقدم والأكبر في لبنان، وربما في المحيط العربي. واسمحوا لي هنا أن أقول، إنّ حادثة البارحة في المجمّع التجاري ABC الأشرفية، يجب أن تُعلن وتُتناول على رؤوس الأشهاد، وأن يتداولها كلٌّ من موقعه وبحسب إمكاناته، محاولة في نثر كما نشر الوعي الممكن والمطلوب تجاه هذه القضية الإنسانية بامتياز. في اتجاه متوازٍ، ومن وجهة نظري طبعًا، ألفت إلى ضرورة عدم السقوط في فلك التعميم الذي هو أمر مُدان بالتأكيد. وما أرى أنّه يجب القيام به هو تسليط الضوء على هذه القضية الأساسية من منطلق إنسانيّ.
فالقضية يا سادة ليست بالسهلة أو البسيطة على الإطلاق، وإنّما هي قضية عنصرية بامتياز، ربما يجب أن نشهرها من هذا المنطلق. وما رأيته من امتعاض عند البعض، أضعه في خانة الردود الانفعاليّة ليس أكثر. فهل المطلوب رفض المظاهر الدينية لأي كان في هذه المتاجر كما في غيرها من الأماكن؟ وهل نقبل بالمظاهر الدينية التي ربما تُستخدم لمصالح تجارية أو لاستقطاب الناس في مناسبات شهر الصوم أو الأعياد لدى كلّ الطوائف التي أحترم وأقبل؟ وهل، وهل، وهل أطرح سيلًا من الأسئلة التي توضّح انفعالات الناس المشروعة تجاه هذا التصرّف العنصري والمقزّز. ما أرغب في الحديث عنه الآن، هو ما أعلنته إدارة هذا المركز التجاريّ، إذ اعتبرت الحجاب رمزًا دينيًا. وهو أمر يدلّ على عدم معرفة كنه الحجاب وماهيته وفلسفته، ولماذا نرتديه أساسًا، وهو أمر جميل في رأيي لو تُقام اللقاءات والنقاشات حوله.
أمّا الأمر الذي يعني لي أن أتناوله حقيقةً، هو أنّ هذه الفتاة اختارت أن ترتدي زيًا معيّنًا فاستبعدت، إذا أردت أن ألطّف التعبير، لأنّها في الحقيقة طُردت كبائعة، على أساس اختيارها للزي الذي ترتديه، لا على أساس كفاءتها أو مهاراتها أو قدراتها في إنجاز عملها، وهنا يجب أن تتمحور إشكاليّة الموضوع في التحديد. قد يعتبر البعض وأنا منهم، أنّ هذه الحادثة قاسية ومجحفة بحق المحجّبات، وهي بالنظرة الأولى تصّنف في هذا الإطار، ولكن أرى فيها فرصة كبيرة قد تلفت النظر أو تغيّر النظرة إلى واقع المحجّبات في بلدنا لبنان.
في هذه المعمعة، تَبادرَ إلى ذهني أكثر من سؤال حول القضية المُثارة، وجميعها تدور حول السؤال التالي: مَن المفروض أن يتأثّر ويرفض ما حصل في حادثة ABC في الأشرفية؟ الجواب باختصار شديد وربما بمنتهى البساطة، يطال كلّ إنسان منفتح الفكر يقبل ويتقبّل أي اختلاف؛ كما كلّ إنسان يستيقظ صباحًا ليجهّز نفسه للذهاب إلى العمل دون أن يكون اختياره لزي معيّن سببًا في خسارته عمله أو أيّة فرصة في حياته، أو أن يتسبّب هذا الزي بنظرة دونيّة، أو لأيّ موقف تمييز سلبي تجاهه. وهنا أورد بعجالة توضيحًا يتعلّق بالحجاب؛ الحجاب بتفسير بسيط لباس اختارته المحجبّة لارتدائه لا لتُثبت أنّها مسلمة، وإنّما يُمكننا النظر إليه كأيّ زي مختلف يختاره أي شخص حتى من غير المسلمين لارتدائه، وبالتالي مقارنة الحجاب بأي رمز ديني كالآيات القرآنية أو الصليب وغيرهما هي مقارنة منذ البداية خاطئة في طرحها. واسمحوا لي هنا، أن أتناول رمزيّة الحجاب، وما أود أن أقوله، أنّ المحجّبة في الشكل تُشبه السيدّة مريم العذراء والدة السيد المسيح عليهما السلام، كما تُشبه أو تتشبّه بزيّ نساء رسولنا محمد (ص) وبناته.
سؤال آخر يتبادر إلى ذهني في هذا السياق، لماذا نقبل الفتاة التي اختارت أن تكون كاشفة الرأس، أو حتى الجسد، ونعتبره شأنًا خاصًا، لها الحق في اعتماده، مع أنّه خيار قد يكون بعيدًا عن بيئات معيّنة تلتزم بقيم معيّنة، ويُدرجون هذا الأمر تحت مظلة حرّية الرأي والتعبير والاعتقاد، وفي الوقت نفسه، ننكر هذا الحق للمرأة المحجّبة الذي يكفله لها الدستور اللبنانيّ. أعتقد أنّ الرفض يجب أن يبدأ من هذه الفكرة، ويجب أن يشمل هذا الفعل والتعبير عنه كل إنسان يؤمن بالحرّيات الشخصية، والتي يُعتبر الزي واللباس من أبسط مظاهرها.
مع قناعتي أيضًا بأنّ رفض مثل هذا التصرّف يجب ألا يقتصر على المحجّبات، أو الإناث، أو المسلمين أو حتى المقتنعين والمقتنعات بالحجاب. أمّا السؤال الذي يتبع ما سبق، فهو يتمحور حول كيفيّة رفض مثل هذه الممارسات، علّنا نصل تدريجيًا إلى نهاية التمييز ضد المحجّبات.
المسار يُمكن أن يبدأ بدعوة مفتوحة إلى كل مهتمّ وكلّ من يجد نفسه معنيًّا بالأمر، سواء اتّفق أم لم يتفّق مع ما جرى تناوله من أي جهة كانت؛ أدعو إلى نقاش مفتوح، من خلال ندوات أو لقاءات أو مؤتمرات تتناول الخوض في مثل هذه القضايا الحسّاسة والمصيرية في آن، علّنا نتعرّف لنرتقي ونسمو بفهمنا قد يبدو مغايرًا لواقعنا الإنساني في هذا الوطن، كما في هذا العالم الذي وُجدنا فيه.
ويبقى أن نسعى أيضًا للإضاءة على مثل هذه التصرّفات العنصرية، دون أن نهمل الدعوة إلى مقاطعة كل المؤسّسات التي تنهج نهج مركز الـ ABC التجاريّ، أيًا تكن هذه المؤسّسات، وإلى أي جهة انتمت. فالعنصرية لا تقتصر على جهة أو فئة، وقد نتفاجأ بكم التمييز العنصري الموجود في مؤسّسات قد نعتبرها بعيدة كل البعد عن مثل هذا السلوك وهذه التصرّفات.
أضف إلى ذلك أمرًا أودّ الإشارة إليه، وهو أمر ملفت فعلاً، أنّ هذه المؤسّسات التجارية لا ترفض بالطبع الزبونة المحجّبة، بل على العكس تمامًا، ترحّب بها وأموالها بكل رضى واحترام.
أمّا التصدّي لمثل هذه الممارسات التمييزية العنصرية، فيجب أن يكون جليّا وواضحًا، يترك تأثيره وبقوّة على أرباح هذه المؤسّسات، ويُثبت بالفعل لا فقط بالقول رفض مثل هذه الممارسات التمييزيّة المقزّزة. ولأنّنا في لبنان، البلد الذي نتغنّى بتنوّع المعتقدات فيه، علينا أن نرفض وندين ونواجه مثل هذه التصرّفات والممارسات، في بلد يجب أن تُبنى فيه علاقاتنا على مبدأ احترام الخيارات والمعتقدات والتوجّهات رغم الاختلافات.
كما أنّه من غير المقبول، أن تقبل المحجّبة في بلاد الغرب، ذات الأغلبية غير المسلمة أكثر من بلدها الذي قد يكون ذا أكثرية مسلمة.
وكي لا نضيّع البوصلة، اسمحوا لي أن أختم كل ما تقدّم بإشارات سريعة تتناول بعض ما قيل حول قصّة زينب.
تابعتُ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، كما في بعض وسائل الإعلام، نقاشات دارت حول اهتمام هذه المراكز التجارية باحتفالات عيد الميلاد في الوقت الذي يرفضون فيه عمل محجّبات. للتوضيح هنا، هذه المراكز التجارية تحتفل بكلّ الأعياد لكلّ الأديان، وهي مستعدّة للاحتفال بعيد إبليس نفسه إذا كانت هذه الاحتفالات تزيد من نسب أرباحها.
والقضية كما أعتقد، لا تتعلّق أيضًا بتقصير يُعزى إلى الجمعيات التي تُعنى بقضايا النساء على تنوّعها وتعدّدها، من قضايا حضانة الأم لأطفالها، إلى قضايا العنف ضد النساء إلى قضايا منح الجنسية لأولاد المرأة اللبنانية وسواها من القضايا… مثل هذه الجمعيات مطالبة بالإضاءة على مشاكل المجتمع.
وتناولها لقضية ما لا يعني بالضرورة التطرّق أو الابتعاد عن قضايا ذات عناوين مغايرة.
تبقى القضية الأساس، أن لا نكتفي بالمسار التنديدي وإنّما علينا أن ننحو باتجاه خطوات إجرائية، لعلّنا نحدث تغييرًا إيجابيًا ولو كان خجولاً.
هو مسار نحن من نختاره، في تناول قضيّة كقضية مناهضة هذه التصرّفات العنصرية، لا شك ينسحب على خياراتنا حيال كل التحدّيات والقضايا التي نواجهها لا سيّما في مثل هذه السنوات القاسية والصعبة على حد سواء.