لبنان.. ارتفاع الدولار يقضي على الإصلاح المالي

أخبار عربية – بيروت

كتبت الصحافية اللبنانية زينة منصور:

بدأ لبنان بسياسة الإستدانة منذ العام 1994-1995. وفي أوج الحرب، تراوح انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار من سقف الـ3 ليرات في السبعينات إلى 500 ليرة في الثمانينات وصولاً إلى 789 ليرة أواخر الثمانينات.

أودت المغامرات السياسية بالليرة إلى عملياتٍ انتحارية في السنوات الـ30 الأخيرة. مرةً بالمضاربات 1992-1993 لإرساء مشروع سياسي، ومرةً بإرساء الاقتصاد الريعي (1993-2019)، وأخيراً بالتلاعب الجماعي بالمضاربات لإنقاذ مشاريع سياسية متهاوية على وقع ثورة 17 تشرين.

في العام 1988 في ذروة الحرب الدائرة حينها وقبل إبرام التعديلات الدستورية، وصل أقصى انخفاض مقابل الدولار إلى 789 ليرة. وبعد إعلان وثيقة العيش المشترك 1990 ودخول لبنان حقبة السلم وانطلاقة مرحلة جديدة، اشتعل الدولار عام 1993 في عملية إسقاطٍ مالية لحكومة الرئيس عمر كرامي. فكانت الشرارة الأولى لبداية التلاعب بمصير ومستقبل الليرة والاقتصاد.

ومنذ العام 1990، دخل لبنان مغامرة سياسية – اقتصادية مزدوجة. بدأت مع القفزة الجنونية للدولار والسياسة المالية الانتحارية لتثبيت المديونية وما رافقها من دولرة شاملة قضت على نظرية الفروقات بين السعرين الفعلي والافتراضي للدولار، وما ترافق معها على مدى 3 عقود من دمارٍ للقطاعات الانتاجية والوقوع في فخ المديونية المتراكمة والعجر في الميزان التجاري والمدفوعات وتثبيت انخفاض قيمة الليرة في زمن السلم بنسبة أكبر مما كانت عليه في زمن الحرب. وبناءً عليه تمت دولرة شاملة للاقتصاد وحُولت وجهته من حلم سويسرا الشرق إلى وهم موناكو الأثرياء.

تكللت الرؤية الانتحارية للاقتصاد بعدة مشاهد أبرزها: المضاربة، الديون، الفوائد، العجز، النمو الوهمي والدولرة. مشهد المضاربة المفتعلة عام 1992-1993 أوصل ارتفاع الدولار حتى الـ3000 ليرة لأسباب سياسية، أتت على جناحيها حكومة إنقاذية لإعادة الإعمار والثقة. وجرى بعدها تثبيت الدولار عام 1997 على 1500 ليرة.

وفي زمن السلم حين كانت تقضي السياسة النقدية والمصلحة الوطنية بإعادة الدولار إلى سقف أدنى مما كان عليه في عز الحرب في الثمانينات، إلا أن العكس هو ما حصل فعلياً.

فأتت مغامرة التسعينات السياسية والمالية ما بعد الحرب، لتجعل الليرة مقابل الدولار 3 أضعاف ما كانت عليه في عز الحرب. فانتقلت من 500 إلى 1500 مقابل الدولار الواحد. وهنا تكمن الجريمة النقدية السيادية الكبرى بعدم صون العملة الوطنية. فبات ماضي لبنان المالي أفضل من حاضره، علماً أنه لغاية العام 1992 لم يتجاوز سقف الدولار الواحد الـ1000 ليرة.

شكلت هذه النقلة الثلاثية الأضعاف من حيث خسائر الليرة مقابل الدولار ضرباً جنونياً انتحارياً، وحققت أرباحاً كبيرة لفئةٍ على حساب مصلحة لبنان واقتصاده. وما زال لبنان يدفع ثمنه من نقده حتى اللحظة. ويتم تكراره حالياً بما هو أسوأ منه، من خلال السماح بقفز الدولار عتبة الـ4000 ليرة لبنانية وذلك بانتحار جماعي جديد أعنف وأوسع وباستثمار سياسي محلي متعدد الأبعاد، ودولي استجابةً لشروط صندوق النقد.

ترافقت السياسة الانتحارية المالية بدولرة شاملة للاقتصاد تدحض نظرية سعري الصرف الفعلي والافتراضي. فلا تعدو كونها أكثر من لعبة ابتزاز سياسي ونقدي.

فالاقتصاد الريعي المدولر تحول إلى اقتصاد عاجز مدمر بدورة اقتصادية وهمية ونمو وهمي وفوائد عالية لاجتذاب الرساميل، وضرائب مجحفة وإنتاج ضعيف واستيراد مفرط واعتماد ليرة الدولار اللبناني. وهكذا وقع لبنان في عدة أفخاخٍ بفخ واحد وعلى مراحل، في مغامرة تلو الأخرى:

  1. فخ المديونية.
  2. فخ انهيار الليرة.
  3. فخ الفوائد العالية.
  4. فخ تثبيت انخفاض قيمتها في السلم أقل من الحرب.

أما وقد نال لبنان مرتبة الانهيار النقدي فما هو حل علته الاقتصادية بدءاً من الليرة وحمايتها وحماية مستقبل أبنائه. لغاية اللحظة ما يجري حيال معالجة سعر الصرف يتراوح بين سياسة النعامة والانتظار المحفوف بالمخاطر. ليست مشكلة الليرة بين قيمتين: وهمية وواقعية. فالاقتصاد المدولر بالكامل من رأسه حتى أخمص قدميه يدحض نظرية القيمتين ويدحض نظرية النمو الموعود والمُنتظر.

وليس هناك أي ضمانات من أن رفع الدولار والتخفيض الحاد لقيمة الليرة الذي نشهده كفيل بإنجاز نهضة اقتصادية لأن تخفيص سعر الصرف في اقتصاد مدولر ليس هو الحل الفعلي والعلمي. ففي الأشهر الأولى من اعتماده في ظل أزمة الوباء العالمية وبعد انتفاضة 17 تشرين تراجع الاستهلاك حوالي 70%. وتفاقم الانهيار الاقتصادي وانخفض الاستهلاك ما يثبت أن تحقيق النمو بات أصعب وأعقد.

إن رفع سعر الصرف لن يساعد في تحول الاقتصاد من ريعي إلى منتج. ولن يزيد من الصادرات ويرفع الإنتاج المحلي ويزيد من الاستهلاك الداخلي ولن يحقق النمو المنشود المتوازن للمحافظات الخمس. ما يجري، سواء تحت ضغط صندوق النقد لأسباب خارجية أو تحت ضغط الأطراف المحلية التي اعتادت لعب سياسة الأرض المحروقة، بالاقتصاد حيناً وبالمغامرات الخارجية أحياناً وبالحرب الأهلية أحياناً أخرى، لن ينقذ اقتصاد لبنان من انهياره.

كما أن تغيير اتجاه مصير لبنان من الانتحار الجماعي في رفع الدولار وتدمير الليرة وسياسة المديونية هو في يد اللبنانيين أنفسهم ولا يمكن لأحد أن ينقذهم أو أن يستمر في سياسة القروض والهبات في ظل موازناتٍ مثقوبةٍ وصناديق منهوبة.

يُدير المديونية العامة 3 جهات: مصرف لبنان وجمعية المصارف ووزارة المالية. الإصلاح يبدأ من رفع يد هذه الجهات الثلاثة عن إدارتها وإيلائها لجهة مستقلة. وانصراف الجهات الثلاث إلى متابعة شؤون قطاعاتهم وإصلاحها لإعادة انطلاقتها ضمن أسس ومفاهيم جديدة تلائم التحول الاقتصادي القادم.