تتأطر رواية جزيرة البكاء الطويل لعبد الرحيم الخصار في مائة و أربعين صفحة من الحجم المتوسط، صدرت عن دار المتوسط بإيطاليا ، تحكي مغامرات العبد الابق مصطفى الزموري الذي باعه والده للبرتغاليين فترة المجاعة والاضهاط السياسي الذي عرفه المغرب عسى أن يعيش حياة أفضل دون أن يعلم والده أن ابنه سيتحول إلى رمز تاريخي، ويمثل هوية مغربية بعدما كان منسيا في مدينة أزمور، فحظي باهتمام و عناية خاصة من طرف الاخر اي الاجنبي لكونه اول عبد مغربي وطأت قدماهجزر أمريكا ، إذ اكتشف مدنها، وعالج مواطنيها من الأمراض و الأوبئة بالأعشاب الطبيعية و الأدعيةوالآيات القرآنية التي حفظها في طفولته على أحد مشايخ أزمور .
أما المدة التي ألفت فيها رواية جزيرة البكاء الطويل هي خمس سنوات ، وقد استعان عبد الرحيم الخصار في جمع مادة روايته بعدة مصادر و مراجع أجنبية و عربية ، ذلك لأن الرواية تصور واقعين مختلفين: واقع حضاري راقي، و واقع متدني سفلي يمثله المغرب في فترة الاستعمار.
يتوقف الخصار في روايته عند ثلاث مراحل تاريخية متقاربة من تاريخ الظلم الإنساني هي: مرحلة الاحتلال البرتغالي للمغرب، و ما عاناه سكان مدينة أزمور من ظلم وقهر، و مرحلة تهجير المورسكيين و إرغامهم على تغيير ديانتهم إلى المسيحية، ثم مرحلة الاعتداء الأوربي على الهنود الحمر، إذ شكلت المراحل الثلاثة أبرز الأحداث التي تمحورت حولها روايته”، ومنها انطلق الروائي ، فاعتبرت تلك المراحل مثابة اطارات كبرى تتفرع عنها إطارات صغرى، فمثلت أحداثا تاريخية يمكن ترتيبها حسب المبنى الحكائي على النظام التالي:
إن أول حدث انتشار المجاعة و الجفاف والاوبئة في المغرب و احتلال للبرتغاليين لبعض مدنه و السيطرة على خياراته من خلال نهب ثرواته النباتية و المائية والبرية، فكان ملك إسبانية يرسل عدة سفن إلى المغرب لأخذ نصيبه من خيرات المغرب؛ من زيتون و حبوب وماشية وغير ذلك. بينما يكمن الحدث الثاني في طرد المورسكيين من معظم المدن الأندلس و تعذيبهم و حرقهم خاصة أولئك الذين رفضوا تغيير ديانتهم و طمس هويتهم من خلال حرق كتبهم، ومن تم شك فيه، فإنه يطرد او يحرق من قبل البرتغاليين أمام الجميع ليكن عبرة للآخرين. فهذه الأحداث منظمة حسب ما يقتضيه المبنى الحكائي ، أما إذا انتقلنا إلى المتن الحكائي فستكون الأحداث و الوقائع التاريخية مرتبة على الشكل التالي:
– ترقب المواطن المغربي وصول السفن البرتغالية لبيع أبنائه للعدو الأجنبي ليعيش حياة أفضل، على سبيل المثال لا للحصر بيع مصطفى الزموري ابنه للبرتغاليين ، الذين قاموا أيضا بيعه مرة أخرى في سوق النخاسة بمدينة إشبيلية، لرجلِ اسبانيٍ يدعى دروا نتيس فصار خادمه في كل أموره ، ليخوضا مغامرة البحث عن عالم جديد “خاصة البحث عن الذهب” وخلال اسفاره وجد معاناة كثيرة سيما مع الهنود الحمر الذين ضاق معهم مرارة العيش بسبب التمييز الذي لقيه من قبلهم و اختلاف الثقافات و لكنه انسجم معهم، فتعرف هناك على فتاة تدعى أماريس وانقضت حياته و خاصة حينما أخبرته بمؤامرة التي عقدت عليه بغية اغتياله باعتباره نصابا و سارقا الذهب من جزيرتهم ليختفي فجأة. ويتمظهر الحدث الاخير في انقلاب السفينة البرتغالية أثر وصولها إلى شواطئ المغربية بالتحديد قرب مدينة أزمور.
دلالة العنوان :
كُتِبَ عنوان رواية “جزيرة البكاء الطويل” بلون أبيض يثير انتباه القارئ ويشده لقراءة النص ، و بنفس اللون كتب جنس الرواية ، حيث كتب بلون أبيض صغير فوق اسم المؤلف، وبذلك يخبرنا المؤلف بأن مؤلفه عبارة عن رواية وليس عملا ابداعيا اخر، كما كتب اسم المؤلف بلون أبيض متصدرا أعلى الغلاف بلون واضح بارز. في حين يتضمن الغلاف الأمامي صورة أو لوحة فنية لرجل يرتدي قبعة حمراء وسط خيط أسود ووجه شاحب تظهر عينه اليمنى و يرتدي جلبابا بلون برتقالي يتوسط لون أسود.
بانتقالنا لدار النشر نجدها كتب بلون أبيض في أسفل الغلاف تتوسط الكتاب ، وبجانب الصورة دراجة هوائية مرسومة بخط أبيض يركبها رجلا أو شابا يحمل بين يديه سيفا طويلا دليلا على يتجه نحو معركة الحرب و أنه يتنبأ بوجود عدو آخر . بينما جاء الغلاف الخلفي للرواية بلون أخضر مغاير يتضمن نصا سرديا لا يتعدى عشرة اسطر بمثابة تلخيصا موجزا للرواية، و أسفل الغلاف يوجد اسم دار النشر التي قامت بنشر الرواية و هي دار النشر المتوسط إيطاليا. اما حاشية الغلاف كتب عليها اسم الروائي “عبدالرحيم الخصار” وكذلك عنوان الروائي “جزيرة البكاء الطويل .
المستوى التركيبي النحوي:
جزيرة؛ مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره. وهو مضاف.
البكاء: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة
الطويل : نعت تابع لمنعوته في رفعه و شبه الجملة في محل رفع خبر المبتدأ.
أما من الناحية الدلالية:
جزيرة : يقصد بها منطقة من اليابسة تحيط بها المياه من جميع الجهات، ولا ترقى مساحتها لكي تكون قارة.
البكاء: يحدث للشخص حينما يكون في حالة يرثى لها او عندما يشعر بالتعب و العياء و الحزن أو عند فقدانه لشخص عزيز ما، أو شيء نفيس لا يقدر بثمن.
الطويل؛ جاء على صيغة فعيل و هي صفة مبالغة تدل على كثرة البكاء و الصراخ الذي يقترن بالمخاوف والاهوال و التهديدات و المتاعب و التعذيب النفسي .
الجدير بالذكر أن هذا العنوان يدل على نفسية الشاعرة المتأزمة و المتدمرة
دلالة الرواية :
تتعقب الرواية حياة مصطفى الازموري الذي يعرف في الرواية بعدة اسماء منها: استفانيكو، و هو يتحول من عبد إلى رمز تاريخي، فقد تعددت أسماؤه ومعها تعددت ألوان أيامه في هذه المغامرة القدرية التي قادته عبدا من أزمور من بالمغرب، بعد أن باعه والده للبرتغاليين مرورا بإسبانيا التي صار فيها سيدا و صولا إلى أن يكون، في بداية القرن السادس عشر، مكتشفا لمدن الذهب في أمريكا و ما فيها من أسرار و أهوال، شخصية استثنائية استطاع الروائي مقارنتها بحفر مضن في الذاكرة، عبر سردية أدبية تغوص في تفاصيل حدث معلوم يكتنف تاريخية الكثير من الغموض.
السارد في الرواية :
يتناوب على عملية الحكي في رواية “جزيرة البكاء الطويل” أربع شخصيات رئيسية ، بالإضافة إلىالسارد استفانينكو الذي كان له النصيب الأكبر في سرد الأحداث باعتباره بطلا للرواية، إذ يتولى مهمة سرد أربعة فصول مختلفة العناوين، بينما تُحكى الفصول الأخرى من طرف شخصيات ثانوية هي:أماريس، دورانتيس، كابيزا دي فاكا ، و القائد البحري الذي لم يكن مرتاحا لاستيفانيكو، حدو والد مصطفى.
شخصية مصطفى الزموري:
شاب مغربي، تم بيعه للبرتغاليين في القرن السادس عشر بالتحديد بالمغرب بمدينة الجديدة، بسبب المجاعة و الفقر الذي كان منتشرا في معظم الدول الأفريقية المستعمرة، غير أن مصطفى الزموري وبداية التفتيش غيّٓر اسمه من دورانتيس، كما اضطر إلى تغيير ديانته، و حينما بدأت مرحلة الرحلات الاستكشافية إلى أمريكا أخذ دورانتيس استبيان معه، فهيمن على تلك الرحلات الطابع الديني: هداية الهنود الحمر إلى المسيحية لكنها كانت بالأساس من أجل الذهب واستقطاب الهنود الحمر خدما وشبابا. ومع تقدم الأحداث في الرواية و التوغل في ادغال الهنود الحمر سيتحول استفانينكو من عبد إلى زعيم ، و معالج روحي ليحظى بعد ذلك بلقب ابن الشمس.
يرصد السارد حال بطله و تقلبات أحواله في بلد غربي و كيف خاض تلك المغامرات والمخاطر الصعبة و الاستغلال الذي لقيه من قبل مجتمع اوربي لا يرحم، فكان النص ساحر و مخيف وشيق، يختبر العبودية و الترحال والإبحار عبر المحيط باتجاه جزيرة كلها اشواك ومتاعب ، جزيرة طويلة جدا، يقطعها السارد ليكتشف ذاته و هويته و يحقق انجازات منقطعة النظير، و من ثم كانت رواية عن الحب والصداقة التي لم تكتمل، وعن الصدق و الخيانة والألم و الظلم الإنساني.
مهما ما يكن فإن مصطفى الزموري شخصية استثنائية استطاع الكاتب مقاربتها بحفر مضن في الذاكرة.
ماريس
يحكي السارد على لسان استفانيكو( مصطفى الزموري) عن الامن والسلام الذي كان سائدا في مدينة هوايكو رغم انتشار الامراض و الجفاف والاوبئة قبل وصوله مع ثلاثة رجال يتقدمهم استفانيكوا رافعا شارة الطب يدعى انه ابن ششراتى من بلاد بعيدة قصد معالجة مرضاهم ونشر السلم والسلام باعتباره رجلا مباركا” قال الحكيم رجلا مبارك يحل بيننا ،و الرجال الذين معه ليسوا غرباء عنا، فهم من قبائل بّيْمَا وبَابَاغو و أُوْباتا وتاراهومارا. رجل عظيم أرسلته إلينا الشمس ، سيداوي مرضانا، ويرفع عنا الخوف، ويزيح كلَّ همِّ وفاقة، ويطرد كل روح شريرة من أجسادنا ومنازلنا .و سيبارك هوايكو و يجعل الصفاء يعلو و المحبة تسود ، إنه ابن الشمس ، إنه ابن شمس “.
بعد أشهر قليلة تعرف استفانيكو على زوج أمارديس السابق <موكو> وهو فنان ماهر في الغناء ،فصار ينظم له الحفالات وسط ساحة هوايكو ويغني له مما نال اعجاب استفانيكوا فتعلم منه الغناء ، يقضي استفانيكوا يومه في اصطياد الغزلان من الغابات المجاورة للمدينة و يعود مع غروب الشمس مما جعل الناس يعتقدون أنه ينوب عنها ليلا، وكانت أمارديس تراقبه ليلا دون أن يشعر بها فتجده يصلي و يتضرع لله بأدعية لا تفهمها، فصارت تشك فيه و تتساءل مع نفسها كيف لي ابن شمس يصلي ،ما هي إلا أيام معدودات حتى انكشف أمره حينما قبضوا على رجال من بلاد غريبة معترفين بأنهم يبحتون على الذهب و لا غير ولكن من حسن حظ استفانكوا أنه كان في الغابة مما اضطرت امارديس تبحث عنه بين اشجار الغابة الكثيفة و تخبره بأن رجال المدينة يردون قتله و إعدامه ، وبعدما سمع الخبر السيء اختفى دون أن يعلم الناس بالوجهة التي قصدها لتختلف الروايات في مسألة اختفائه ،فيمنهم من سماه الغول الاسود ومنهم من قال بانه صعد الى السماء.
يصف استفانيكو أهوال البحر ومخاطر التي عاشوها من رعب وخوف ذب صداه في نفس الركاب ” واجهتنا عواصف متعاقبة، لكنها لم تكن لترعبنا على الإطلاق . فما رأيناه في سانتا كروز جعل هذه العواصف الصغيرة تبدو لنا كما لو أنها رياح خفيفة و عابرة .مع بداية الربيع سنصل إلى اليابسة، و نلمح أول بيت هندي. إنها أرض فلوريدا صاح كابيزا دي فاكا.”
لما وصلوا إلى ارض فلويردا كانوا خائفين من غربة المكان فكان استفانكو همه الوحيد حماية سيده درورانتيس حيث يرافقه أينما حل وارتحل إذ يسهر على حمايته وخدمته لأنه يعزى له الفضل في تحرير من العبودية فكان بذلك فخورا بخدمة سيده .” لأنه الرجل الذي أخرجني من أرض العبودية سريعا، و دفع بي إلى بحر الحرية” بعد ذلك أمرهم سيدهم بالدخول إلى المنازل الفسيحة فوقع اختيارهم على منزل كبير فدخلوا إليه مجبرين بحثا عن ذهب لكنهم وجودوا صناديق خشبيه تحمل جثتا لأشخاص في حالة يرتى لها ” رائحة الجلد المحترق تملأ المكان حين شق سهم مجهول صدر أحد مرافقينا”
في الغابة التقى استفانيكوا بسبعة عشر هنديا أسيرا، خيرهم بانفيلو بين الانضمام إليهم أو الموت، فأخبروهم أن الذهب يتواجد بكثرة في مدينة “أبالاشين” فقصدوا تلك مدينة قاطعين أنهار وغابات ومتوقفين بين الفينة والاخرى لاستراحة من التعب و العياء فمات معظمهم بسبب الضمأ و الجوع والامراض ” فقد أفوا الموت”.
البحث عن الذهب: لما وصلوا ألى أبالاش لم يجدوا سوى الاطفال والنساء و السهام التي تتقاطر عليهم من مختلف الاتجاهات ، فاتجهوا الى أرض فلويردا ،لكن بدءوا يتناقصون بالتدريج بسب السهام التي لحقتهم من قبل الهنود الين تسببوا في موت الكثير . وعانى استفانكوا واصدقاءه كثيرا في غبةمظلمة مخيفة سموها جزيرة البكاء الطويل لما تتميز به من غربة المكان والاشجار والوحوش.
لم يكن البحث عن الذهب بالأمر سهل بالنسبة دروانتيس واسنفانيكوا بل خاضوا حروبا ومعارك مع الهنود الحمر و صراعات مع أهوال البحر وعواصفه، لإتمام المهمة الموكولة لهم من طرف ؟ كان دروانتيس يرغب صديقه استفانيكوا بقصص أحد الجنود الذين خاضوا معارك وجلبوا الذهب بالقوة من خزائن وقصور الملوك وعادوا بها إلى الملكة إزابيلا .حينما وزودته بالسفن والعتاد والجنود طمعا في الذهب و المعادن النفيسة دون أن يخبروا الاسبانين بطريقة الحصول على الذهب ،“حيث كلف الرجل الفتيان والشباب و الرجال من الهنود الذين كانوا تحت سيطرته أن يجمعوا الذهب بأية طريقة و يأتوه بها ” حيث كانوا يضعون لجالب الذهب طوقا من النحاس في عنقه تميزا له عن الشخص الاخر الذي لا يجلب الذهب فيقومون بقطع رأسه عبرة لأخرين وبهذه الطريقة البشعة استطاع ذلك الجمع أكثر قدر من الذهب. ومن هذه التجربة التي خاضها ذلك الرجل انطلق استفانكوا حيث كانت لهم رغبة كبيرة في أن يعشوا تجربة مماثلة لتك التجربة ،و لم يكن كولُومبس أول رجل وصل الى العالم الجديد فقد وصل قبله بحارة من الصين، وقبلهم وصل رجل من الأندلس .كان ذلك نهاية القرن التاسع عشر”.
يصف السارد على لسان دروانتيس صديقه استبيان منذ أول لقاء به في سوق النخاسة حينما اشتراه كعبد وخادم له دون أن يعرف انه سيتحول من عبد منسي إلى رجل يساهم في صنع الاحداث الكبيرة ، لتحقيق ذلك عليه أن يخرج من بخار باتجاه أرض أكثر شساعة . قد يعود ثريا ، وقد يعود بالقليل من الذهب ، وقد لا يعود المهم أن الأيام ستذكر أن رجلا منسيا قطع البحار كي يخرج من هذا النسيان “.
غاستبيان لم يتغير بقدر ما تغير اسمه العديد من المرات وذلك حسب الدور الذي يقوم به “أعرف اناستبيان ظل كما هو من الداخل .فالاسم ، بالرغم منكل شيء ، يبقى مثل اللباس يمكن تغييره ، أما يعتمل في القلب و مايرسخ في الروح فهو شبيه بجبل قديم “.
ثم يقارن السارد بين مدينتي بيْخار و سلامانكا ” لم تعد الحياة كما كانت في السابق . “الخيرات التي كانت تجود بها الأرض طفقت تنضب، وصرنا نخاف أن يأتي زمان لا نجد فيه حتى الطعام الكافي، وقد بدأت بوادر هذا الزمن الأسود تظهر لنا شيئا فشيئا”. لذلك فكر دروانتيس في طرق اخرى تفضي الى حياة افضل.
لترغيب الرحلة الى العالم الجديد واكتشاف الذهب يعمل السارد على استطراد كلامه بقصة لأحد الشخصيات كشخصية كورتيس ” رجل حرب أخذ الذهب كله في تينوتشتيلان بالقوة ليعش نفس التجربة سينطلق اسبيان وصديقه من قادس في صيف 1527. لبحث عن الذهب ولكن ليس بالقوة وليس المهم ايجاد الذهب والاهم عنده هو التجربة فقيمة الرجل ليس بالضرورة ثروته، بل ما راكمه في حياته من مجازفات، الرجل الذي عاش مغامرات أكثر و هو الرجل الاعمق”
قد خاضوا حروبا في البر والبحر حيث دمرت العواصف القوية سفنا واغرقا رجالا فصنعوا سفنا تقليديةمن اشجار العرعار و سعف النخيل و جلود الخيول” فكان الفضل في صنعها لاستبيان الذي لم يعد ينظر إليه بوصفه خادما بل رجلا يعول عليه في ليالي الشدّة . وفي طريقهم إلى تلك الجزيرة صادفوا سفينة لهنود الحمر فعاشوا الرعب والالم جراء الجوع العطش ” معظمنا لم يشرب الماء لستة أيام ، لكن الرجال الذين نفد صبرهم واظبوا في ظل هذا الفقد على شرب مياه البحر المالحة، وقبل أن نصل رمينا ثلاثة منهم في البحر بعد أن اشتد مرضهم بسبب ذلك . فمات منهم الكثير ولم ينقدهم سوى مركب هندي صغير فاستقبلهم اهل تلك الجزيرة بكثير من الترحاب فقدموا لهم أطباقا لذيذة من السمك المشوي و أهدى لهم زعيمهم قطعا من الحلي و قضوا الليل متسامرين معهم ولكن بعد عودنهم تفاجؤوا بوفاة اصدقائهم ، فخاضوا حروبا كثيرة من جديدة وأهمل استبيان قراءة الكتب، وبهذه المغامرة الطويلة والصعبة التي عاشها في رحلته تحول أندرياس دورانتيس الشاب الحالم إلى محارب حقيقي تولى مهمة رحلة عظيمة و مرعبة .
استيفانيكو
يحكي السارد على لسان استفانيكو الصعاب ، المعاناة ، المشاكل التي واجهته في رحلته إلى مدينة هوايكو ، فلم يعد يعرف الطريق التي سيسلكها والمدينة التي سيسافر إليها ، إذ التقى في طريقه رجلاطاعنا في السن فسأله عن مدينة هوايكو فأخبره بعدم البحث عن الذهب قائلا ” لا تشغل بالك بالبحث عن الذهب .ابحث عن نفسك، فأنت هو الذهب” ولما وصل استفانيكو إلى مدينة هوايكو واحتار الناس في أمره فهل سيقتلونه أم يتركوه على قيد الحياه فمن حسن حظه اعتبره أحد رجال تلك المدينة ” بأنه روح قديمة جاءت من زمن بعيد، لعلها تحمل إلينا خيرا ما“ إذ ؛ وجدهم يطلبون من السماء أن تجود بالمطر و يرقصون و يغنون لاستجلاب الخير. فظنوا أنه كاتشينا ( و هو كائن خرافي يبعت من موته ليعيش مع الأحياء حيواتهم فصلا أو فصلين ثم يعود إلى موته ومع وصوله يصل الخير أو يعقب مقدمه بفترة قصيرة .” فقد اعتبره كل من فراي ماركوس وكابيزا دي فاكا عبدا يخدم أسياده. لكن استفانيكوا اعتبر الهنود اخوته و أصداقاءه.ولكن لم يختلف دروروانتيس مع استفانيكوا رغبة في الاختلاف أو ان يكون بطلا مشهورا إنما هدفه الاسمى ايجاد طريقا مختصرا للوصول إلى مبتغاه. حينما وصل إلى هويكو لقي ترحيبا و اهتماما كبيرا من قبل سكانها لكنه ظل يفكر ليل نهار في أماريس التي تبلغ الواحد والعشرين أو الثاني العشرين “فتاة نحيفة و طويلة ،و لها ضفيرة يبدو فيها الشعر يلمع كثيفا كما لو كان لفرس”
وفي الأخير ختم الخصار روايته بنص مقتطف للكاتب المصري و المحقق أحمد حميدة ، ليوهم القارئ بواقعية أحداث الرواية.
كابيزا دي فاكا .(113)
البعد النفسي للأحداث:
يتحدث السارد في هذا الفصل بضمير الجماعة ليؤكد ان الرحلة التي خاضها بمعية أصدقائه كانتجماعية ومشيرا إلى تلك المعاملة السيئة التي عوملوا بها من قبل الهنود الحمر إذ كانوا ينظرون إليهم بدون شفقة، فعاشوا في تلك المغامرة الضياع والجوع والحرمان حتى تفرقت كلمتهم ولم يعد يجمعهم سوى السفر ،فمات معظمهم في البحر ولم يتبق منهم سوى أصحاب السواعد القوية و العضلات الضخمة، إلا الهنود لم رأو تدهور أحوالهم شفقوا عليهم، فقدموا لهم يد المساعدة وشاركوهم حزنهم ” بدأت ملامحهم تتغير ثم فجأة طفقوا يبكون و ينتجون أشفاقا على حالنا”
في هذا الفصل قارن السارد على لسان استفانيكو بين الحياة في اسبانيا و الحياة في الجزيرة، “فالعبد في اسبانيا يتمتع بحياة افضل مقارنة مع الجزيرة التي كلها مخاوف و مخاطرلأن الموت يلاحقهم اينما حلوا وارتحلوا.
استغل الرجال الأربعة ثقة الناس وصاروا يقومون بعالجهم مقابل المأكل والمشرب و الميت و بعض الهدايا إذ؛ يتقدم اليهم المرضى من كل القبائل ثم ينزعون جواهرهم وأسلحتهم مقابل العلاج ويستعملون، فكانوا يستخدمون في علاجهم أعشابا طبيعية و آيات من الكتاب المقدس “فيتولى كل شخص منهم مهمة ” يقرأ عليهم دورانتيس آيات من الكتاب المقدس، بينما يهمس الزنجي في آذانهم بكلمات عربية،
وبعد أيام قليلة التقى كابيزا دي بفاكا ب الثلاثي كورتيس و دورانتيس وعبده الزنجي فاستغربوا منه لأنهم كانوا يعتقدون أنه توفي ” قال كورنتيس : ” حسبناك قد مت أيها الوحش “فاخبرهم بأنه عشا أياما صعبة و أهوالا متعاقبة ، ثم توجهوا إلى قبيلة أفاريس صحبة نفر من الهنود الحمر باعتبارهم معالجون أتوا من بلاد بعيدة .
لم يكن استفانيكوا ذا شأن سوى أنه كان شجاع و صديقا وفيا لسيده دروانتيس ،حيث كان يبالغ في تقديره و مدحهأمام الجميع، لكن الشجاعة في نظر كابيزا دي فاكا اصبحت أمرا طبيعيا فمن شهد الموت مرات كثيرة سيصبح شجاعا.” فكانت له عينان لا تزمشان ، يحس الناظر إليهما بأن صاحبهما لا يعرف الخوف، ولن يعرفه .ينظر إليك طويلا قبل أن يقول كلمات قليلة .كان الهنود يهابونه ى، ربَّما لصرامة ملامحه الإفريقية ،او لأن شيئا منهم يوجد فيه. تعلم لغاتهم ، وصار أقربنا إليهم. كانت هوايته هي التحديق في الأشياء البعيدة قليل الكلام،لكنه كثير النظر“.
وفي الختام ختم الخصار هذا الفصل بمقولة تاريخية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي ” زعيم المقاومة بالريف ” لا أدري بأي منطق يستنكرون استعباد الفرد، ويستسيغون استعباد الشعوب”
حدوٌّ(129 _137)
يحكي السارد على لسان حدو مجموعة من الأحداث التاريخية و المعلومات التي لم نكن نعرفها إلا بعد قراءة أكثر مئة وعشرين صفحة ، إّذ افتتح كلامه برؤية منامية تخص ابنه ؛ حيث يرى ان ابنه يقطع بمعية نفر من الرجال البحار و الوديان فتكاد الرياح أن تعصف بهم فعاشوا اهوالا كثيرة ورأوا وجوها كثيرة و مختلفة.
“رأيت كل شيء في حلم. يد تأتي من بعيد، وتمتد إلى يد ابني، وتأخذه معها إلى أراض بعيدة ؟ىرجال بيض وسمر يقطعون بحرا بعد بحر. تكاد الرياح أن تعصف بهم، لكن الله سينقد منهم من ما يزال اسمه مكتوبا في الكتاب الكبير، كتاب الحياة الدنيا .أما ، الأخرون ، فيسغرقون في مياه غاضبة“ هنا تطابقت رؤيته مع الواقع”.
يشير السارد كذلك إلى قصة لالة عائشة البحرية و سبب مجيئها إلى المغرب” امرأة جاء بها الحب من بغداد إلى أزمور، لتموت قبل أن ترى معشوقها ، حيث كان أيوب السارية يدرس العلوم الشرعية هناك فأراد الزواج منها فرض أهلها فعاد الى المغرب حزينا /لما علمت برحيله امتطت سفينة نحو المغرب بحثا عنه لكن شاءت الاقدار ان تنقبل السفينة فتكون هي من بين الجثث المرمية بين صخور البحر و حينما سمع ايوب السارية بقصة وفاتها رفض الزواج و غاص في الجين وزهد في الحياة.
كما يشير السارد الى قصة احتلال بعض المدن من طرف البرتغاليين الذين نهبو خيرات المغرب واستولوا على اراضيها وصيروا مساجدها كنائس ففروا الناس الى البوادي المجاورة لمدينة أزمور خوفا من بطش النصارى. خاصة حينما رأوا عددا لا يحصى من السفن محملة بالأسلحة فبدوا يتحاربون معهم بالأسلحة الطبيعية كالنبال و الحجارة والمقالع . منذ دخول البرتغاليين للمغرب انتشرت الاوبئة وتوالى الجفاف لذلك باع نفر من المغاربة ابنائه للعدو مخافة عليهم من الموت .
مصطفى (137 _142)
هذا الفصل بمثابة تلخيص وتكثيف لأحداث الرواية” حيث يتذكر الايام التي قضاها دون جدوى و أنه عاش حياة الاخرين ليس إلا “فأجمل سنوات عمره ضاعت من سفين إلى أخرى و من بلد إلى بلد حياته شبيهة بجزيرة معزولة ” جزيرة القدر الطويل” أو جزير البكاء الطويل.
يسمى في الرواية بعدة أسماء : استبيان ، استفانيكو، اكا، استيفان الأسود، استيفان الموري،المكسيكي الأسود، الفاتح الاسود، الزنجي،العبد، مصطفى ، تعددت اسماءه و معاها تعددت أيامه. لكنه اشتق لاسمه الاصلي ” مصطفى” وأحب اسم استبيان لمحبته وإخلاصه دروانتيس العظيم.” الرجل الذي شمله بحبه ورفعه من مقام دنيء إلى مقام رفيع ، كما أحب ابن الشمس لحبه لأماريس التي أنقدته من الموت ” فلو لم تصرخ أماريس في تلك الشعاب، لكنت جثة مصلوبة على مدخل هاويكو عبرة لكل من يطمع في ما يملكه الأخرون، و ربما كنت جيفة للطيور البرية. علاوة على ذلك، يتساءل السارد عن معنى كلمتي الحياة والموت ؟ فهما مجرد كلمتين لكن لا بد أن يعيشهما المرء ، فكل شيء سيموت حتما وحتى الصخور لها أرواح .
يلخص الاحداث” يتذكر أمه التي مات في كوخ و السفينة التي رست ساحل أزمور و الاغلال التي كانت تقيد أقدامنا و أيديناـ ويحيى الذي كان يكثر السؤال وفررفايير وهو ينصب رايته في الخراب، كاريسيمرا التي غادرت ثم موكي المغني، و أماريس التي ظل الحب يلكع في عينها.
يقر السارد في الأخير على لسان مصطفى انه لن يبحث عنة الذهب مرة اخرى فمدن سيبولا تخفي الموت اكثر من الذهب بل يحمل الامل للمرضى ” فأشجار الزيتون البري في لأزمور لمتكن تمنح الناس زيتونا، فهي أشجار بلا ثمار ، لكنها على الأقل ككانت تمنح الظل في أيام الحر، وحطبها يمنح الدفء في أيام البرد. فترك الخصار السرد مفتوحا .؟
اجمالا يمكن القول بأن هذه التجربة الروائية ” جزيرة البكاء الطويل” هي تجربة فريدة من نوعها، وتستدعي منا الاهتمام والعناية الخاصة، بل تستحق بكل ما تحمله الكلمة من معنى أن تقف عندها أقلام النقاد وأراء الباحثين، لا من خلال نثر الورود ومدح صاحبها فحسب ولكن بهدف مساءلتها وتقيمها التقييم الموضوعي والفني الذي تستحق حتى يوضع صاحبها في المكان الذي يليق به ولا أخاله إلا مكان تحت القمر.