ديوان أنشودة الرحيل للشاعر “محمد دومو” وقصيدة الدار لشاعرة “أمينة المريني “
دراسة مقارنة
تقديم:
إن الحزن ظاهرة من الظواهر الإنسانية ،وسمة بارزة تحضر في مختلف الإبداعات الشعرية المعاصرة ،حيث أصبحت علامة دالة و بارزة في القصائد الشعرية و ليست كتلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي تتسم بالوضوح و إمكانية التحديد، بل ظاهرة نفسية ترتبط بالجانب النفسي غير المدرك لكي تصيب الإنسان بالألم لفترات زمنية طويلة متفاوتة الشدة، يحس فيها المرء بمأساته فالأسى ليس حكرا على شخص دون أخر بل يلحق بالبشرية جمعاء؛ فقراء وأغنياء صغارا وكبارا ،وتختلف درجة الحزن فقط فيمن يجعله طريقا للتحدي والخلاص والانتصار.
ينضوي الحزن ضمن مفهوم واسع وشامل هو المأساة وقد عرفه الباحث فاضل عاقر قائلا “حالة انفعالية تتصف بمشاعر غير سارة ،و تعبر عن ذاتها بالتأوه و البكاء ،و قلة الميل إلى تحريك العضلات ” . بتعبير اخر هو حالة نفسية يطبعها البكاء والشكوى والالم.
للأسى أسباب متعددة تختلف من شخص لآخر، فقد يحزن المرء بسبب فقدان شخص ما ، أو بسبب مرض استعصى على الأطباء علاجه ،أو بسبب المواقف والمحن والأزمات الصعبة التي تعرض لها سواء في طفولته أو شبابه أو كهولته و للإنسان وسيلتن للتخلص من معاناته؛ فإما أن يلتزم بالصمت أمام تلك الآلام المبرحة و الاحزان المجرحة ، أو يحتمي بالشعر باعتباره أفضل وسيلة للتعبير عن معاناته فيتخلص من آلامه التي تنهش وجوده و ُتحرك كيانَه و كيانَ أمتهِّم.
ومن يتأمل الشعر المعاصر سواء بصيغة المذكر أو المؤنث يدرك بلا شك انتشار واسع للقصائد المأساوية لكن دون أن يكلِّف نفسه عناء البحث عن أسباب حضورها أو تجلياتها في السردية الشعرية المغربية خاصة في السنوات الأخيرة.
و السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه الدراسة هو؛
أين يتمظهر الحس المأساوي في ديوان “أنشودة الرحيل وقصيدة الدار”؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا تظهر عارية منذ البداية إنما تُلزَم العودة إلى قراءة ديوان أنشودة الرحيل، وقصيدة الدار” قراءة واعية وتحليلهما انطلاقا من المستويات الدلالية والفنية و الأسلوبية والايقاعية .
من يتدبر ديوان و”منها تتفجر الأنهار” لشاعرة أمينة المريني خاصة قصيدتها الموسومة ب الدار” يدرك أن المريني شاعرة الطبيعة بامتياز فجعلت الطبيعة تحزن لحزنها وتفرح لفرحها :
تقول شجيراتُ ورْد ٍومِسْكْ بَلْيلْ
رحلْتَ...
كأنك ما كنْتَ فينا
( الغلامَ الفتيلْ)
وذاك الذي يَعْصِر اللحن سِحرا ً
بقلب الأقاحي
وسَمْعِ الأصيلْ...
وذاك الذي علَّم الطير عشقًا
وبَوْحًا ...
و أَرَّقَ قَلْب الخمَائِل
لفْحًا وجُرْحَا .
فهذه المقاطع الشعرية أتت رثائية بليغة التأثير و شديدة التصوير ، فتميزت بلغة الأسى والألم والحنين ، ولقد اسندت الشاعرة الكلام الحزين للطبيعة فالأشجار لا تتكلم و إنما الانسان وهو الذي يعبر عن حزنه بيد أن الشاعرة أردت بأسلوبها أن تجعل الطبيعة حزينة وكئيبة بسبب رحيل من كان يعتني بها، ومن تم فالشاعرة ألنست الطبيعة فأصبحت عندها كالإنسان تفرح لفرحه وتحزن لحزنه.
فإذا كانت الشاعرة استعانت بالطبيعة لكي تعبر عن تجربتها الذاتية ،فإن الشاعر محمد دومو جعل الأسى تجربة جماعية وذلك بأسلوب مباشر خالٍ من الأساليب البيانية و الإيحاءات الرمزية ،وهذا ما نلمسه في ديوانه “أنشودة الرحيل”:
لن أبكي اليوم عن موقف
فما عاد البكاء يصلح لي في وسط
وما أصبح عندي وسيلة للتعبير
في هذه النافدة الشعرية يعبر الشاعر عن معاناته و شكواه من مصائب الدهر و أعاديه، وهي مصائب جعلت حياته قاسية و كئيبة وجعلته يعتبرها أكبر معاناته سيما تلك الأزمة والمحنة التي تعرض إليها ، فاعتبر الزمن الذي يعشيه سواء الماضي أو الحاضر زمن الانحطاط، فهذه المحن التي أصبح يعيشها تحت وطأة العيش وعذباته جعلته يرى الموت أنسب حل للتخلص من مشاكله ،ولكن ضُّعْفه أمام المحن وصروف الدهر لم يمنعاه من إظهار ملامح قوته المتمثلة في تشبته بالحياة وامتلاكه لناصية الإبداع وقدرته على نظم جميل الشعر و أعذبه بلغة فنية جمالية بسيطة دون تكلف وعناء .
يقول الشاعر في موضع اخر:
مواقف الحياة أبكتني كثيرا
حزن و تأسف وإحساس بالفشل
تعددت الام وجروح قلبي
هناك محن لا تحصى ولا تعد
يصف الشاعر ها هنا حزنه و ألمه إثر وفاة والدته وبقائه وحيدا في مواجهة المواقف الصعبة بقلب دام كبير، ومن تم فالقصيدة هيمن عليها حقلان ؛الأول اقترن بالماضي الدال على الحزن والانكسار ،والثاني ارتبط بالحاضر دال على الفرح ،فهناك تعارض بين ماض الشاعر وحاضره ،فالماضي بوصفه مصدر السعادة والحاضر بوصفه مصدر التعاسة.
الصور الفنية:
إن اللغة في ديوان “أنشودة الرحيل” تتسم بلغة بسيطة وسهلة لا غرابة فيها ولا خشونة تميل إلى سهولة الألفاظ وبساطتها، ومن تم يخلو ديوان “أنشودة الرحيل” من الرمز والصور الشعرية ذلك لأن الشاعر يعبر عن معاناةٍ حقيقيةٍ فلا حاجة له بالرموز والاساطير بينما يَحْبُل “ديوان “و منها تتفجر الانهار” بالصور البيانية و الرموز ومن هذه الرموز نذكر (النهر ، البدر ، الريح “،) ويتمظهر الرمز ذلك في قولها :
تَزرع في السهْو قْفْرا
وتحْصِدُ حَفَنَاتِ رَيْحِ
وكيسَ غبارٍ...
وتمضي كأنك تَسْمُكُ إِيوانَ كِسرَى
وتَحْمل ُفي الكفِ شَمْسًا
وبعض قشورِ
وبدرا...
وتبقى فتانا ربيباً لماء ٍوطينًَ
فماذا بعدَ الرحيلِ
(فتانا الاسِير القَتيل)
فالصور البيانية استمدت شرارتها من الطبيعة ونهلت جماليتًّها وفنيتًّها من أسلوبي الرمز و الايحاء ، فقد كانت الشاعرة ذكية حينما استعملت لفظة الريح ولم ” تستعمل لفظة الرياح لأنها تعي الفرق الجوهري بين الكلمتين، فالأولى تحيل على الدمار والخراب بينمها تدل الثانية على معنى الخير، وبالتالي فهذه الدقة في اختيار الألفاظ وانتقائها تؤكد على دراية الشاعرة وتمكنها من علوم اللغة من جهة واطلاعها على المنجز الشعري قديمه وحديثه من جهة ثانية.
وتقول أيضا :
و وسْوَسَاتِ الوُرْقِ بيْن الْغُصُونِ
وتحمل في الكف شمسا
وبعْضَ قُشُورٍ
وبدرًا
لقد جاءت هذه المقاطع الشعرية معبرة عما يدور في خلد الشاعرة، فهي تحاور الطبيعة بعبارات سهلة وبسيطة ، تتغلغل في نفس المتلقي ،فرغم الاسى و الظلام الذي هيمن على شعر الشاعرة إلا أن الطبيعة بمختلف مكوناتها ومناظرها الخلابة منحت القصيدة جمالا فنيا الذي يعتبر عند زمرة من النقاد إشباعا لرغبات مكبوتة ومن تم يمكن عده حلم الفنان “الفن يتحول إلى تعبير جمالي لأن الأمور تضفي عليه تعابير جمالية ليست في الحقيقة سوى مميزات حلمية”.
الأساليب :
مما يميز شعر محمد دومو عموما امتزاج صوته بصوت الناس أفرادا وجماعات و تحققت هذه الخاصية بوضوح في مُختلِف قصائده الشيء الذي يعكس مدى معانقة الشاعر للقضايا الانسانية في مختلف صورها الاجتماعية و الوجودية .
وفي نهاية القصيدة أورد الشاعر مقطعا حكيما يحمل نزعة خطابية واضحة ، تتمثل في ضمير المخاطب [ واقتنع ” ، عش] الذي يعكس قدرة الشاعر على نظم المعاني الراقية ذات البعد الحكمي، وأيضا تهذيب ذوق المتلقي و إرشاده للخصال النفسية الحميدة ومكارم الأخلاق وإقناعه بها لتكون قدوة حسنة له في الحياة الاجتماعية، وهذا يدل على اهتمام الشاعر بالمتلقي وحرصه على إقناعه القارئ بتصوره للآداب و الخصال النفسية التي يؤمن بها المجتمع والنابعة من القران والسنة.
الضمائر ودلالتها:
نستشف من قراءتنا لقصيدة الدار تكرار ضمير المخاطب بكثرة لأن الشاعرة تخاطب شخص ما دون أن تعين نوع الوشيجة التي تربط بينهما ، مما يعني أن الشاعرة تعبر عن تجربة شعرية ذاتية الأمر الذي تكشف عنه مجموعة من الافعال و الصيغ الصرفية، في حين زاوج الشاعر بين ضمير المتكلم و ضمير الجماعة وهذه الصيغة تدل على أن شاعر يعبر عن تجربين؛ ذاتية وجماعية في الوقت نفسه، لذلك امتزج صوته بصوت الناس أفرادا أو جماعات ، الشيء الذي يعكس مدى معانقة الشاعر لقضايا الإنسانية في مختلف صورها الاجتماعية و الواقعية ومنه فالشاعر ناطق باسم جميع المظلومين والمقهورين والفقراء والبؤساء.
مستويات الحزن وتجلياته:
إن الألم الذي يشعر به الشاعرمحمد دومو أعمق وأشد قوة من الأسى التي وصفته امينة المريني، هذا أمر طبيعي لأن الشاعر مزج بين ألمين ؛ألم فراق والدته، و ألم المحن والأزمات التي تعرض لها خاصة تلك التي تتعلق بمساره المهني والاجتماعي.
وعليه، يمكن تقسيم قصيدته الموسومة ب “دمعتي الأخيرة ” إلى جزأين ؛ أحدهما يرثي فيه والدته قائلا؛
فلن أبكي قط، بعد موت أمي
في الماضي ،ودون جدوى ، بكيت .
وبكائي على فراق أمي يستحق ..
و الثاني يحكي فيه عن معاناته والأزمات والمصائب التي انهالت عليه مجتمعة فأنشد قائلا :
مواقف الحياة أبكتني كثيرا
حزن وتأسف و إحساس بالفشل
تعددت الام وجروح قلبي
لا ارتياب في أن الازمات والمحن بإضافة إلى لوعة الفراق هي التي دفعته لنظم الشعر، أسطع دليل على ذلك قول الشاعر في نهاية ديوانه “كونت نفسي بنفسي بكثرة المطالعة وبكثرة الأزمات التي عشتها” فهذه الملفوظات تداوليا تحمل خطابا مضمرا، مفاده أن محمد دومو لم يكن شاعرا إنما المواقف الصعبة و المعاناة هي التي كونت قريحته الشعرية ومن تم كانت تجربته تجربة شعرية واقعية.
ولقد ربط الشاعر محمد دومو الرثاء بالحزن والنصح والارشاد ، فهو يشعر بأنه في حاجة لنصح المتلقي وتذكيره بيوم الرحيل فاتخذ الاعتبار والنصح طابع خاص وصادق، فيه من الإحساس بقدر ما فيه من العقل، قائلا:
يا سالك الدنيا تذكر الرحيل
ولا تظن أنك ستبقى معمرا
عش حياتك واعمل للرحيل
يعاني الشاعر في صمت بسبب المحن والازمات خاصة تلك الحادثة التي جعلته يَفقد صحتَه وعملَه ، فالتجأ إلى العدالة باعتبارها امرأة معصوبة العينين تحمل ميزانًا بيد والسيف باليد الأخرى ، فأنشد قائلا :
توجهت صوب العدالة مظلوما
أشكو بما أصابني من محن
أبكي بكاء الطفل البريء
نواح امرأة بفقدانها لعزيز
أنا المظلوم المكلوم دائما
لا تتركيني وحيدا أعاني
لم يعبر الشاعر فقط عن حزنه وألمه بقدر ما انتقد العدالة و القيم التي أصبحت متدنية في المجتمع المغربي، فأنشد قائلا :
أين نحن من قيم الأخلاق؟
فوضى عارمة في الأوساط ؟
أنا أنظر وأحكي ما ألمحه.
وليس هذا الحكي من فراغ.
تمعن في الكلام وقارن بنفسك
فمن يتأمل هذه السطور الشعرية يدرك أنها تحمل بين دفتيها رؤية وجودية تدعو للتصالح مع الذات وليس نظرة تشاؤمية أو ساخرة كما يبدوا للبعض ، لعل هذا ما صرح به الشاعر نفسه قائلا ؛” قد تبدو لكم نظرة تشاؤمية لكنها وسيلة للتصالح مع الذات والتخلص من بعض إكراهات الحياة بنوع من الصدق في التعبير عن إحساس دفين”.
لنقف عند قصيدة أخرى للشاعر أحزنته قضيته وسال الحزن دمعته فتمنى المنية لتخلص من مأساته بصفة نهائية “
سأرحل غدا ..أو بعد غد..
وسوف أترك ورائي كل الأشياء .
سأرحل من أجل لقاء أخر.
فلكل واحد منا ،موعد.
ثم يضيف قائلا في قصيدة أخرى موسومة ب” المأساة” :
أنا بعيد عن مأساة هؤلاء .
البؤس نمط حياة صعبة المنال
واقع مر و ليس مجرد خيال .
يتضح من خلال لغة القصيدة أن الشاعر ساخط على الحالة المأساوية التي يعيشها الفقراء والبؤساء بسبب التهميش والفقر و الفساد والظلم وسلب الحقوق ،و بالتالي لم يعد الشاعر يعبر عن ذاته إنما يمثل البؤساء كافة.
تأسيسا لما سبق ذكره يمكن القول ان الشاعر محمد دومو ينقل لنا من خلال ديوانه “أنشودة الرحيل” رسالة نبيلة تدعو إلى التصالح مع الذات و التأخي بين البشر، كما عبر بقوة عن معاناته من الظلم والقهر والمحن والمواقف الصعبة التي عاشها سواء في طفولته وشبابه مما أضعف صبره وأسال دمعته وأسمع القارئ صرخته.
أما أمينة المريني ، لقد ربطت الرثاء والحزن بالطبيعة، فكانت شاعرة الطبيعة بامتياز و اعتبرت الطبيعة كائن حي تناجيه ويناجها وتحبه ويحبها لذلك شاركتها همومها و ألامها وأفراحها.
المصادر و المراجع:
محمد دومو: أنشودة الرحيل.