في عيد العمّال القطاع الخاصّ يصرخ كما القطاع العامّ: “بدّنا نعيش بكرامتنا”

بقلم باولا عطية

قد يكون بيت الشعر “عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ” أفصح ما يقال في وصف واقع العمّال اللبنانيين في عيدهم. وبرغم أنّ هذا البيت أصبح مستهلكًا إلى درجة كبيرة فإنّه يعبّر عن مآسي عمّال لبنان، الذين استُنزفت طاقاتهم، وبحّت أصواتهم في ساحات الاحتجاج، وسُرقت أموالهم، ومعها تعويضات نهاية الخدمة، ليجدوا أنفسهم متروكين بمواجهة مستقبل مجهول قاتم الأفق؟

وعليه، يترافق عيد العمّال هذا العام مع سلسلة عطل رسمية، قد تريح بعض هؤلاء، وتسمح لهم بالتقاط الأنفاس لبضعة أيام، عساهم يتمكّنون من أخذ قسط من الراحة، قبل العودة إلى الكفاح اليومي. فالظروف الاقتصادية القاسية أجبرت معظم المواطنين على العمل في أكثر من وظيفة، حتى يتمكنوا من تأمين أبسط مقوّمات العيش الكريم، بعد أن تخطّت نسب البطالة بين الشباب الـ 47.8 في المئة، واضعةً لبنان في المرتبة الأولى عربيًا، بحسب الإحصاءات التي صدرت أخيراً في تقرير منظمة العمل الدولية.

ووفقاً لبيانات حديثة جمعتها مصادر مختلفة بما في ذلك البنك الدولي ومعهد الاستشارات والبحوث في لبنان، فإنّ معدل التضخّم في لبنان لعام 2023 بقي مرتفعاً بشكل مثير للقلق، إذ بلغ 222 في المئة في المتوسط العام. وإلى جانب نسب البطالة العالية، تأتي العمالة الهشّة والعشوائية والمستغلَّة، غير المغطّاة بأيّ تقديمات اجتماعية مع غياب الاستقرار الوظيفي، في رحلة البحث عن مصادر متعددة للدخل، لتجعل بذلك العامل “عاطلاً عن الحياة”، وسط ظروف عمل رديئة ومنافسة من العمالة السورية الراضية “بأيّ شيء”، وأرباب عمل يستغلّون الوضع.

كيف يتعايش العمّال مع هذا الواقع؟

فادي عبد المسيح، موظّف في القطاع الخاص، (45 عاماً، أب لولد واحد)، يروي معاناته لـ “الصفا نيوز”: “أتقاضى راتباً بقيمة 400 دولار في الشهر، يشمل المواصلات، فيما بدل إيجار منزلي 260 دولاراً بعد عدّة مفاوضات مع صاحب الملك الذي كان يطالبني بـ 300 دولار. علماً أنّ منزلي يقع في النبعة، وهي تعتبر من المناطق الفقيرة. ونتيجة الواقع الاقتصادي الصعب، أُجبرت على بيع سيارتي قبل أكثر من 4 سنوات، وأصبحت أذهب إلى عملي في منطقة الحازمية، سيراً، بانتظار أن يتلطّف عليّ أحد المارّة، ويوصلني في طريقه، لاقتناعي بأنّه أجدى بي توفير المال الذي سأدفعه مقابل خدمة المواصلات، لتأمين الطعام لابني”.

وعن باقي المصاريف، يقول “استغنيت عن خدمة الانترنت في منزلي، فيما الأكل نؤمّنه من بضع جمعيات، يزوّدنا قسم منها الأدوية الضروريّة، وقسم آخر يؤمّن لنا طبقاً يومياً، فيما القسم الثالث يؤمّن لنا صناديق إعاشة في أوّل كلّ شهر. كما أنّ أخي مهاجر يحوّل لي قرابة 100 دولار في الشهر، تسندني لدفع فاتورة المولّد، وتأمين حاجاتنا الأساسيّة الأخرى. والحمدالله عائشون من قلّة الموت”.

التحويلات من الخارج هي السند الوحيد

وقد تكون أموال المغتربين في الخارج هي السند الأكبر لفئة واسعة من اللبنانيين، فبحسب تقرير الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان “الدور المتزايد للتحويلات النقدية وأهميتها في لبنان”، تبيّن أنّ التحويلات النقدية إلى لبنان بلغت نحو 37.8 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي خلال عام 2022، وهي تعدّ النّسبة الأعلى المسجّلة في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويحتلّ لبنان المرتبة الثالثة من حيث المقادير المطلقة للتحويلات في قائمة البلدان المتلقية للتحويلات النقدية، بعد المغرب ومصر. في المقابل، تبلغ تكلفة التحويلات النقدية في لبنان نسبة وسطية تصل إلى 11 في المئة، وهو ما يفوق المتوسط العالمي البالغ 6 في المئة، كما يفوق النسب المسجّلة في البلدان المجاورة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

بدوره، يرفع أندريه زيادة، (جندي متقاعد) الصوت عالياً “بعد 24 سنة خدمة في سلك أمن الدولة أتقاضى راتباً تقاعدياً يبلغ مع الزيادة الأخيرة حوالى 240 دولاراً، فيما مصروفي الشهري لإعالة أسرتي يتخطّى الـ 800 دولار، شاملاً فاتورة المولّد، وفاتورة الكهرباء، واشتراك الانترنت، والدش، والأكل والشرب، وأدوية تنظيف، ومصاريف خاصّة لأولادي. لديّ 4 بنات، 3 منهنّ أنهين دراستهنّ الجامعية، والصغيرة لا تزال تدرس في الجامعة، أمّا الكبيرة فهاجرت إلى الخارج، وهي التي تعيل العائلة اليوم، لأنّ أخواتها جميعهنّ عاطلات عن العمل. أمّا قسط ابنتي الصغيرة في الجامعة فيصل إلى 3000 دولار في الفصل الواحد، وسلك أمن الدولة لا يغطّي سوى 10 في المئة مقطوعة من مجمل القسط الجامعي، أيّ بمعدل 300 دولار على كلّ 3000 دولار. ولعلّ ما يشفع بنا هو التغطية العسكرية الطبيّة التي لا تزال تدفع بنسبة 100 في المئة، وإلاّ كنا تسوّلنا الملح!”.

متوسّط الحال كما الفقير “مش مرتاح”

وفي لبنان، فإنّ متوسّط الحال هو كما الفقير، لأنّه أيضاً “مش مرتاح”، إذ “لكلّ صليبه”، وهو ما يؤكّده نزار عبد الملك، (36 عاماً، يعمل في وظيفتين) “أتقاضى 1900 دولار في الشهر، مقابل أكثر من 17 ساعة عمل في اليوم، ويوم واحد إجازة في الأسبوع، وحتّى هذا الراتب لا يكفيني للمحافظة على نفس المستوى الاجتماعي الذي كنت أعيش فيه قبل الأزمة. فمصروفي كبير لأنّني المعيل الرئيسي لأسرتي. فوالدي لا يعمل، أمّا أمي، التي بلغت من العمر 65 سنة، فتعمل طاهية في إحدى الجمعيات، وراتبها لا يكفي لتغطية تكاليف الأدوية، لعلاج والدي، وبدل أجرة الممرضة التي تعتني به. وأنا متزوج وزوجتي تساعدني في مصروف المنزل، وتتكفّل بمصروفها، وهي أيضاً تعيل أسرتها قدر استطاعتها. فيما مصروفنا الشهري يتخطى الـ1500 دولار شاملاً بدل إيجار منزل (500 دولار)، وبدل نقل شهري (300 دولار) وفاتورة مولّد (100 دولار) وفاتورة كهرباء وانترنت ودش ومصاريف بناية واشتراك مياه (150 دولاراً) ومصاريف منزل (300 دولار) وتسديد قروض (250 دولاراً)، وجهات ضامنة (100 دولار في الشهر، عني وعن زوجتي) بالإضافة إلى مصاريف أسرتي”.

واقع القطاع العام VS القطاع الخاص

يقول رئيس الاتحاد العمّالي العام، بشارة الأسمر، لـ “الصفا نيوز” إنّ “المشاكل التي يعانيها موظفو القطاع العام تشبه مشاكل موظفي القطاع الخاص، وأوّلها ضآلة الرواتب بالنسبة للواقع الاقتصادي الصعب والغلاء الفاحش، إذ لم تعد تفي بالغرض، فيما التغطية الصحية ضعيفة جداً في القطاع الخاص، خصوصاً في ما يتعلق بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذ يلجأ قسم من الموظفين أو أصحاب العمل، إلى التأمين في شركات خاصة كي يتمكّنوا من الحصول على واقع استشفائي مقبول. أمّا المؤسسات العامّة فتتذمر بدورها من ضعف كبير في الراتب وما يشمله أساس الراتب، إذ لا يزال الموظفون في القطاع الرسمي يتقاضون رواتبهم على أساس دولار 1500 ليرة، وكلّ ما يحصلون عليه من أموال تخصّص شهرياً من الحكومة، تعطى تحت مسمّى مساعدات، كي لا تدخل في أساس الراتب ولا تنعكس إيجاباً على تعويضات نهاية الخدمة”.

واعتبر الأسمر أنّ “تعويضات نهاية الخدمة غير لائقة ولا تكاد تساوي شيئاً في ظلّ هذا الواقع الأليم الذي نعيشه. وبالتالي نحن أمام واقع غير سليم. فالحدّ الأدنى للأجور يجب أن يضمن عيشاً كريماً، ويشمل سلّة غذائية ودوائية واستشفائية وبدل مدارس ونقل واتصالات وسكن. ولتأمين هذه السلّة، يجب أن يبدأ الحدّ الأدنى للأجور من 52 مليون ليرة بحسب دراسة أعدّها الاتحاد العمّالي العام للضواحي، أمّا الحدّ الأدنى في المدينة فيجب أن يصل إلى 100 مليون ليرة، لكون السكن في المدن أغلى، وإيجار أرخص غرفة يبدأ من 200 دولار. لذلك لا بدّ من إجراء عمليّة إعادة تقييم شاملة للأجر في القطاعين العام والخاص، وكنّا قد رفعنا الحدّ الأدنى للأجور في القطاع الخاص أكثر من مرّة بناء على مبدأ “خذ وطالب”. وآخر حدّ أدنى وصلنا إليه هو 18 مليون ليرة، وهو طبعاً لا يفي بالغرض، إلاّ أنّنا نستكمل المفاوضات مع الهيئات الاقتصادية، خاصّة في ظلّ الواقع الاقتصادي والأمني المتردّي. وسنعاود الاتصالات فور هدوء الوضع الأمني في الجنوب لرفع الحدّ الأدنى للأجور مرّة جديدة”.

وأضاف الأسمر “مما لا شك فيه أنّنا حققنا تقدّماً مهمّاً في ملفّ أجر النقل في القطاعين العام والخاص، إذ أصبح 450 ألف ليرة في اليوم. ونحن بحاجة إلى إعادة تكوين السلطة التنفيذية للذهاب إلى حكومة جديدة تعمل كخليّة نحل لمعالجة قضايا المواطنين، وهو ما يجب أن يترافق مع حملة كبيرة لمكافحة الفساد وإقرار الإصلاحات المطلوبة”.

ورأى الأسمر أنّ “واقع الأجور في القطاع الخاص لا يزال أفضل من القطاع العام، لأنّ الأجر متحرّك في القطاع الخاص، وقد يصل إلى مبالغ كبيرة، خصوصاً أنّ بعض الشركات وأصحاب المهن التجارية يلجأون إلى دفع رواتب بالدولار “الفرش” جزئياً أو كلياً. فيما لا يزال الحدّ الأدنى للأجر في القطاع العام يُعطى على أساس سعر الدولار 15 ألف ليرة، بالإضافة إلى رواتب تعطى تحت مسمّى مساعدات وحوافز وبدل محروقات، ولا تدخل في صلب الراتب، وقد تصل إلى 9 رواتب زيادة على الراتب الأساسي، إذ قد يبلغ الراتب 15 راتباً لكنّه يبقى دون الحدّ الأدنى المطلوب للعيش اللائق. وقد باشرنا مفاوضات مع الحكومة لتحسين الرواتب، ودمج جزء منها في الراتب الأساسي في القطاع العام بغية رفع تعويضات نهاية الخدمة”.