| رنا منصور |
في الوقت الذي بيروت التي لا تزال تعيش الحرب، حيث تفترش الشوارع مئات العائلات النازحة هروبًا من شبح العدوان الصهيوني الذي أغار على منازلهم في الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية، تخرج الشابة اللبنانية كريستي رحال، ابنة الـ28 عامًا، بمبادرة شخصية غير تقليدية، تعكس قوة الإرادة والإيمان بأن الأمل يمكن أن يولد حتى في أكثر الأوقات ظلامًا.
رحال، الحلاّقة التي قررت أن تحول آلة الحلاقة إلى وسيلة مساعدة للنازحين، تقطع مسافة طويلة بين الأزقة والشوارع، حاملةً معها حلمًا بسيطًا ولكنه عميق، أن تزرع البسمة على وجوه كبار السن والأطفال الذين فقدوا الكثير من حياتهم في لحظات الحرب.
في حديثها لموقع “الجريدة”، تقول رحال: “الحلاقة ليست مجرد تصفيف للشعر، بل هي محاولة لتخفيف الألم النفسي، وتحفيز أمل صغير في قلوب هؤلاء الذين غيّبتهم الحرب عن حياتهم الطبيعية، تغيير مظهر الشعر، من وجهة نظري، هو جزء من إعادة ترتيب الداخل وتجديد الروح”.
توجه رحال اهتمامها الخاص إلى الأطفال، أولئك الصغار الذين عانوا الكثير من فقدان الأمان، وفقدوا البساطة التي من المفترض أن تميز مرحلة طفولتهم.
في تلك اللحظات، تجد الأطفال يتراشقون الضحك والتنافس على من “تسريحة شعره أجمل” بعد أن تقوم كريستي بتصفيف شعرهم.
هؤلاء الأطفال الذين قُتل فيهم الحلم، وجُمدت آمالهم، سرعان ما تجدهم ينسون للحظات واقعهم المرير، وينغمسون في لحظات من الفرح الطفولي التي لم يكن لهم أن يختبروها لولا هذه المبادرة.
أما بالنسبة للمسنين، فقد اختارت رحال أن تساهم في تخفيف معاناتهم بشكل مماثل.
هؤلاء، ضحايا آخرون لهذه الحرب، وهم في مرحلة عمرية متقدمة كان يجب أن يحيوا فيها بأمان وراحة، إلا أن العدو الإسرائيلي حرمهم حقهم بالأمان، إذا بهم يجدون أنفسهم بلا مأوى، يعانون من نقص في الرعاية الطبية، وبُعد عن الأهل، بعد أن دفعتهم ظروفهم إلى الشوارع، وبدلاً من أن يرزحوا في بيوتهم في هدوء، أصبحوا بلا سقف يحميهم.
وأضافت: “نحن نبحث عن طرق تساعدهم على الشعور بأنهم لا يزالون جزءًا من المجتمع، وأعتقد أن هذه المبادرة قد تساعدهم بشكل غير مباشر على الشعور بالأمل حتى في أصعب الظروف”.
إمرأة حلاّقة في مجتمع شرقي!
ورغم أن المجتمع الشرقي لا يزال يحمل تصورًا تقليديًا عن توزيع الأدوار المهنية بين الرجال والنساء، فإن كريستي لم تخشَ من تحدي هذه الصورة النمطية.
ففي الوقت الذي يُتوقع أن يكون الحلاقون من الرجال فقط، قررت كريستي أن تخرج عن المألوف وتؤسس لنموذج جديد.
فكرتها كانت بسيطة، أن تكون حلاّقة، ولكن ليس في صالون أنيق، بل في الشوارع، وسط النازحين، بين الحطام والخيام، محاولةً أن تكون صوتًا إيجابيًا في زمن تغيب فيه الابتسامة.
وتابعت: “كنت أعرف أنني سأواجه ردود فعل غريبة من البعض، لكنني آمنت أن هذا هو الطريق الوحيد الذي أستطيع من خلاله أن أقدم شيئًا ملموسًا للمجتمع المحيط بي، ليست الحلاقة مجرد مهنة بالنسبة لي، إنها وسيلة لتغيير شيء في حياة هؤلاء الناس ولو لبرهة من الزمن”.
للحلاقة دلالات نفسية بحتة، فالبحث في الأبعاد النفسية لعملية تغيير التسريحة، وتحديدًا في فترات الضغط النفسي مثل أوقات الحرب، يكشف عن دلالات عميقة حول هوية الشخص وتصوراته عن ذاته.
يعتقد العديد من علماء النفس أن تغيير تسريحة الشعر قد يكون وسيلة لتجاوز حالات الإحباط والضغط النفسي، فإعادة ترتيب الشعر أو تغييره قد يمنح الشخص شعورًا بالتحكم في حياته أو على الأقل في مظهره الخارجي.
هذا التغيير البسيط قد يساعد في تعزيز الثقة بالنفس وتحسين المزاج، بل وقد يساهم في إعادة تحديد الهوية الشخصية في أوقات الأزمات.
وفي مجتمع يعاني من فقدان الأمل، يمكن أن يصبح تغيير تسريحة الشعر رمزًا لبداية جديدة.
من خلال تلك القصات البسيطة، تحاول رحال إعادة إحياء روح جديدة، كما لو أنها تعيد صياغة الحاضر والتوجه نحو المستقبل.
في النهاية، الحلاقة التي تقدمها رحال ليست مجرد خطوة تجميلية، إنها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو إعادة بناء الروح المعنوية.
هي محاولة لزرع الفرح، رغم قسوة الحرب، ورغم الأوضاع الصعبة.
وقد لا تكون هذه المبادرة هي الحل النهائي، لكنها بالتأكيد جزء من عملية أعمق لإعادة الحياة إلى هؤلاء النازحين، لتفتح أبواب الأمل أمام النفوس التي تعرضت للتدمير.