يبقى الحديث حول تنفيذ القرار 1701، من باب الرغبة، وليس من باب الضرورة.
له وجوه ثلاثة متنافرة: الوجه الإيراني، والوجه “الإسرائيلي”، والوجه الأميركي – الغربي. أما لبنان فحقل إختبار، ومحطة انتظار. والإنتظار أصبح مكلفاً لا يمكن أن تتحمّله الولايات المتحدة في عزّ إنشغالها بالإنتخابات الرئاسيّة، وتنقل تبعاته إلى الولاية الجديدة، وتضع الرئيس الداخل إلى البيت الأبيض ـ أيّاً كان ـ أمام تحديات مكلفة، وخيارات صعبة. ولا يمكن أن يتحمّله الكيان الإسرائيلي رغم فظاعة جرائمه، وغلاظة خطابه، ولولا الدعم الأميركي المباشر، والمستمر، لكان في مأزق كبير. ولا يمكن للبنان أن يتحمّله. حرب الإستنزاف مكلفة. وفي الجنوب حسابات إقليميّة، ودوليّة، لا تستطيع جرأة الرئيس نجيب ميقاتي عن البوح بها، ولا دبلوماسيّة عبد الله بو حبيب من الإشارة اليها.
رافق التجديد الأخير للقوات الدوليّة العاملة في الجنوب تصعيد خطير. كانت الآمال معقودة أن يكون التمديد لمهمّة “اليونيفيل” بداية نحو النهاية، ومدخلاً لبلوغ المخرج، وإنعطافاً دوليّاً منسّقاً نحو عمل جدّي متقن يعيد بعضاً من المصداقيّة إلى القرارات الدوليّة، ومن الهيبة والمهابة إلى المنظمة الدوليّة، لكن الموانع أقوى من الدوافع، وهي وفق المتداول الحسابي أربعة:
• تعرف الولايات المتحدة ماذا تريد، سواء في غزّة أو في جنوب لبنان أو في الشرق الأوسط، ولأنها تعرف، فإنها لا تريد. لا تريد حرق أوراق قابلة للإستخدام في ظروف دقيقة، ومناسبات حرجة. تريد للآخرين المزيد من الوهن، والتعب، والنزف، والضعف حتى الإستسلام. تريد من محور الممانعة المزيد من الإصرار على تزويد القطار المتجه نحو القدس بالمزيد من الوقود، والجنود، لأنها تعرف النهايات، ومتأكدة سلفاً من خواء القرار، وجسامة الأضرار. وتريد من “إسرائيل” المزيد من الصراخ في الداخل، والمزيد من الفوضى، والإحتجاج الشعبي، والضغط المعنوي. صحيح أنها قد ضمنت أمنها، لكنها لم تهضم تهوّر رئيس وزرائها الذي يقودها من منعطف إلى منعطف أدهى، مدفوعاً من اليمين المتطرف.
ليست الولايات المتحدة هي من سيسدّد الفواتير عن الجميع، بل هي من يدفع بالجميع لأن يصبحوا مجرد أرقام قابلة للإستعمال في حسابات مصالحها.
• ويعرف الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان كيف يحيك سجادة التواصل مع الغرب الأميركي ـ الأوروبي، بهدوء، وصبر، وأناة، وعمق تدبير، وتقرير. أطلق مواقفه، وينتظر الصدى. أبدى استعداده، ويرصد مدى التجاوب. لا يريد أن يلقي الطعم في البحر الأميركي الهائج. ينتظر مرور العاصفة الإنتخابيّة، وما قد تحمل من وجوه ومتغيّرات إلى البيت الأبيض، ليبني على الشيء مقتضاه.
وبالإنتظار، تحتفظ طهران بكل الأحصنة المؤهلة للخوض في الميدان: تخصيب اليورانيوم، تحفيز “الحرس الثوري” لكي يكون متأهّباً لتنفيذ قرار الردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة، وتوثيق التحالفات مع روسيا من جهة، والصين من جهة أخرى، ومدّ اليد من خلال دبلوماسيّة واثقة منفتحة تعرف كيف تأتي بالريح من قرونها.
لا يرى الرئيس بزشكيان نفسه مضطراً إلى تسديد فواتير مسبقة، وتقديم تنازلات هنا وهناك وهنالك. وعندما تنكشح الغيوم، وتسطع الشمس، يصار في ضوئها إتخاذ القرارات، وتحديد الخيارات.
• ويعرف الأوروبي أن المبادرات التي قام بها تجاه أزمة لبنان، ومحنة فلسطين، وأرتال النازحين، لم يكتب لها النجاح، بل كشفت عجزه، وشوّهت صورته، وفضحت ضعف إمكاناته، لكنه إحتفظ بديناميّة الحركة، والأبواق الإعلاميّة. حجّته أن الشرق الأوسط هو الجار المقيم على الضفة الأخرى من المتوسط، وهناك أواصر الجيرة، والمصلحة، والإمتداد التجاري، والثقافي، والخدماتي. لا يستطيع أن يشكّل القوّة القادرة على وضع القرار 1701 موضع التنفيذ، كما يريد، وفي التوقيت الذي يريده، لكنه لا يستطيع أن يكون نكرة، وقوّة معدومة، نظراً إلى حجم حضوره ومصالحه في لبنان والعديد من دول المنطقة. ولا يختلف إثنان حول حجم الحضور الفرنسي، والألماني، والإيطالي، والاسباني في عديد القوات الدوليّة العاملة في الجنوب، والمنتدبة لوضع القرار 1701 موضع التنفيذ. ولكن أيضاً لا رهان حول أنه سيرسل بوارجه إلى المياه الإقليميّة ليفرضه كأمر واقع. وفي الزمن الصعب تكثر المنغّصات، وتقلّ المسكّنات.
ويعرف الكيان الإسرائيلي أن الفرصة المتاحة قد لا تتكرّر. إستثمر طويلاً “بطوفان الأقصى”. إستغلّه ليرتكب الفظائع. ركب موجته ليبحر بعيداً في التشنيع والترويع. قد يكشف التاريخ يوماً حقيقة ما جرى في السابع من أكتوبر/ نشرين الأول الماضي، وخلفياته، وأغراضه، وأبعاده، لكن المساحة التي وفّرها، حوّلها الاحتلال الإسرائيلي إلى ساحة لتسديد الحسابات، وتغيير الكثير من الثوابت والمرتكزات.
إستغل الوهن العربي، بعدما تحوّل “ربيعه” إلى إعصار مدمّر، و”ثوّاره” إلى معسكرات ملحقة “بداعش” و”جبهة النصرة”، وغالبيّة دوله إلى كيانات بركانيّة متفجرة بالثورات والإنتقاضات.
ويستغل موسم الإنتخابات الأميركيّة، والفراغات الواسعة بين إدارة تستعد للمغادرة، وأخرى تستعدّ للحلول مكانها، والدور الذي يلعبه بمهارة “اللوبي اليهودي” في ملعب التحالفات التي تبنى على مداميك الصفقات، والمصالح.
ويستغلّ الإنشغال الأوروبي ـ الأميركي ـ الدولي في حرب أوكرانيا، الجرح النازف، الذي أرهق إقتصاديات قويّة، وأقلق صنّاع السياسات الكبرى، وفتح الأبواب على عالم متعدّد الأقطاب، في مواجهة القطب الواحد.
ويستغل أخيراً الإنفلاش الإيراني نحو المتوسط، والخليج، من شاطىء غزّة، إلى شاطىء البحر الأحمر، مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً الي اليمن. الحسابات كثيرة، والملفات معقدة، وصوت القذيفة لا يزال يعلو على صوت التسوية، ويبقى الحديث عن القرار 1701 مقيّداً بأصفاد إيرانيّة ـ إسرائيليّة، ونزيل زنزانة الشروط، والشروط المضادة.. بإنتظار بزوغ فجر جدبد…