بقلم باولا عطية
خلطت الجولة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية الأوراق السياسية والاقتصادية في فرنسا، بعد تحقيق حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، بزعامة مارين لوبَّن وجوردان بارديلا، المركز الأول حاصداً 34 في المئة من أصوات المقترعين. صارت المعركة في فرنسا اليوم بين يمينٍ ويسار، بعد احتلال الجبهة الشعبية الجديدة (اليساريون)، وهي تحالف تشكّل بعد الدعوة إلى الانتخابات من الحزب الاشتراكي وحزب الخضر وحزب فرنسا الحرة بزعامة جان لوك ميلانشون، المرتبة الثانية حاصدةً 28.1 في المئة من الأصوات، فيما حاز ائتلاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (تحالف الوسطيين) 20.3 في المئة فقط من أصوات المقترعين الفرنسيين، ليحل ثالثاً في لحظة تنذر بأفول نجم الماكرونية. فاجأت هذه النتيجة ماكرون وحده تقريباً، وهو من رمى إلى استخدام عصا الانتخابات السريعة لجمع الفرنسيين ورائه بوجه التطرف اليميني. وما جرى يؤكد أن فرنسا تقف على مفترق طرق خطر، أمام مشهد جديد قد يغيّر وجهها السياسي… والاقتصادي. وإن كانت خسارة ماكرون متوقعة قبل أن تحصل، فمردّ ذلك إلى وضع اقتصادي هش في أوروبا، مثّل أرضاً خصبة لنمو خطاب شعبوي يصعب حصره، خصوصاً مع احتمال دخول دول أوروبية عدة نفق التقشف المالي.
وعلى الرغم من اتخاذ ماكرون العديد من التدابير لجعل فرنسا أكثر جاذبية للشركات كخفض الضرائب وتيسير قوانين العمل، وللأثرياء كإلغاء ضريبة الثروة وتوحيد الخصم بمعدل ثابت ما يقلل الضرائب على الدخل من رأس المال، فإنّه من ناحية أخرى اتخذ تدابير لا تحظى بشعبية كبيرة بين الطبقات العاملة، “كإصلاح نظام التقاعد برفع السن القانوني إلى 64 عاماً، ولم يحافظ على الخدمات العامة كالمدارس والمستشفيات والخدمات الإدارية في المناطق الريفية، وما إلى ذلك”، بحسب ستيردينياك، ملاحظاً أن حلف ماكرون يرغب في الاستمرار في مشروعه الانتخابي الذي يعود إلى عام 2017، “وهذه سياسة مواتية للشركات (تخفيض ضرائب الإنتاج وضرائب مساهمات الضمان الاجتماعي)، ولا تتعارض مع متطلبات الاتحاد الأوروبي، وترفض أي زيادة في الضرائب، وتعتمد على تخفيضات في الإنفاق للحد من الجمهور العجز. لكن هذه التدابير تضع فرنسا في دائرة خطر الركود الاقتصادي”. اليميني المتقلبفي المقابل، يدعي اليمين أنه سيعزز قوة الفرنسيين الشرائية بتخفيض ضريبة القيمة المضافة على منتجات الطاقة، وتخفيض مساهمات الضمان الاجتماعي، متخذاً كذلك منحى سيادياً بالتشديد على أن للقوانين الفرنسية الأسبقية على التوجيهات والقواعد التنظيمية الأوروبية، من خلال إدانة اتفاقيات التجارة الحرة، وإلغاء جزء من اللوائح البيئية، مع إعطاء الوظائف والإسكان الأفضلية الوطنية، وحرمان المهاجرين الجدد من مزايا اجتماعية عديدة. يقول ستيردينياك: “إن وجد هذا البرنامج طريقه إلى التنفيذ، فمن شأنه أن يسبب توتراً كبيراً بين فرنسا والاتحاد الأوروبي، وفي الداخل الفرنسي أيضاً”. فالمجلس الدستوري سيطعن في العديد من هذه التدابير، وهذا سيسبب ارتفاعاً في العجز العام، إلى جانب مخالفتها ما تنصّ عليه التزامات فرنسا أمام الاتحاد الأوروبي. وليس ستيردينياك وحيداً في رؤيته النقدية هذه، فعازار يصف برنامج اليمين بالـ “متقلب… يتغير من ساعة إلى أخرى”. ويضيف لـ “النهار”: “يرتكز هذا البرنامج على ثلاث ركائز. الأولى، تقليل إنفاق الدولة، ولهذا الأمر تأثير تراجعي لأن خفض الإنفاق العام يؤدي إلى تراجع الاستثمار وانخفاض الإنتاج، وبالتالي انخفاض معدل النمو الاقتصادي؛ والثانية، تخفيض ضريبة القيمة المضافة على ما يسمى بالمنتجات الأساسية، وهذا يؤدي إلى خسارة كبيرة في الإيرادات الضريبية”. ضرائب على الثرواتيتابع عازار سرده قائلاً: “الأغنياء يملكون بالفعل وسائل الاستهلاك، وسيزيد استهلاكهم، ولن تتمكن الطبقة العاملة من ملاحظة الزيادة في قوتها الشرائية. وهذا هو السيناريو الذي تخسر فيه الدولة إيراداتها الضريبية. أما الركيزة الثالثة والأخيرة فهي تقليص الموارد العامة، وهذا يؤثر بلا شك على الطبقات الأقل ثراء”. إلى ذلك، ينوّه عازار ببرنامج الجبهة الشعبية الجديدة (اليسار) الذي يهدف إلى زيادة الإيرادات لتمويل الإنفاق الضروري، “فلهذا أثر إيجابي في النمو، ويساهم في تعافي الإنتاجية في فرنسا، ويقترح الاستثمار في الخدمات العامة، والتحول البيئي، وزيادة الرواتب، وتمكين الموظفين، وتحفيز الإبداع… وقبل كل شيء زيادة الإنتاجية”. بحسبه، هذا هو البرنامج الذي تحتاج إليه فرنسا في هذه الفترة المضطربة. ويختم قائلاً: “رفع الأجور لا يعني بالضرورة زيادة تكاليف الإنتاج في الشركات. بزيادة الأجور، يميل الموظفون إلى زيادة الاستهلاك، ما يرفع الطلب على المنتجات. وهذا يعني بيعاً أكثر، وربحاً أعلى لأصحاب الأعمال”، على أن يعاد استثمار فائض الربح لخلق فرص عمل. فبدلاً من إعادة توزيع الدخل، “حان الوقت لفرض الضرائب على الأغنياء”.