كتبت أسرار شبارو في “الحرة”:
“لم يقتلها فقط، بل قتلنا جميعا”، بهذه الكلمات عبرت، رتيبة العاكوم، عن وحشية الجريمة التي راحت ضحيتها في مايو الماضي، شقيقتها راجية على يد طليقها أمام أعين أولادها الثلاثة، لترحل تاركة خلفها جرحا عميقا لا يندمل.
دموع رتيبة لا تتوقف حين تتحدث عن شقيقتها وأطفالها الذين خسروا فجأة حضنهم الدافئ بعدما ذبحها والدهم قبل أن يدهسها بسيارتها، وتقول لموقع “الحرة”، “أزورهم مرارا خلال النهار أؤمن حاجياتهم قبل أن أعود أدراجي إلى منزلي، فيبيتون وحدهم مع آلامهم”.
راجية ضحية من قائمة تضم 29 امرأة فارقن الحياة العام الماضي في لبنان، نتيجة العنف الأسري، فعلى “مسارح” متعددة وبأدوات جريمة متنوعة ولأسباب مختلفة.
وأعلنت منظمة “أبعاد” اللبنانية ارتفاع نسبة جرائم قتل النساء في لبنان في العام 2023 بمعدل 300 في المئة، أي بمعدل امرأتين شهريا، بحسب الأرقام التي تستند لبيانات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
وفي بيان كشفت المنظمة أن نسبة التبليغات على الخط الساخن التابع لوزارة الداخلية بلغت 767 شكوى أي بمعدل 64 شكوى شهريا.
أما “الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية” فكشفت أن “عدد الشكاوى من حالات العنف الأسري المبلغ عنها على الخط الساخن لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لشهر فبراير 2024، بلغت: 40 حالة عنف جسدي، 9 حالات عنف معنوي، وحالة غير ذلك”، ويتم التبليغ عن الحالات من قبل الضحية أو أفراد الأسرة أو كل من يشهد عليها، إضافة إلى تحديد هوية الجاني أو الجانية بالنسبة إلى الضحية.
تربة خصبة للعنف
وقضت المحكمة بالإعدام ضد قاتل راجية، لكن كما تشدد رتيبة “لا شيء يمكن أن يعوضنا عن فقدانها، تدمرت حياتنا وأحلام أولادها (فتاتان وفتى 18 و16 و 15 عاما)، نعيش وضعا نفسيا صعبا للغاية منذ لحظة فراقها”.
وتضيف “لا زلنا لا نصدق ما حدث، أولادها يرفضون التواصل مع والدهم، يحظرون أي رقم يهاتفهم عبره من السجن، فهم يعتبرون أنه ميت منذ قتله لوالدتهم”.
ودعت رتيبة كل امرأة تعاني من العنف المنزلي أن تتخذ الخطوات اللازمة لحماية نفسها، وتقول “شقيقتي تحملت الكثير قبل مقتلها، وعندما حصلت على الطلاق واعتقدت أنها في مأمن من طليقها، استدرجها وقتلها”.
أسباب عدة تقف خلف تصاعد ظاهرة العنف ضد النساء في لبنان، منها كما تقول مديرة منظمة “أبعاد”، غيدا عناني “الأزمة المركبة والمعقدة التي يمر بها البلد، والتي أدت إلى انهيار المنظومتين العدلية والأمنية، ما ولد شعورا لدى مرتكبي العنف بإمكانية الإفلات من العقاب”.
كما أن انهيار الهيكل الخدماتي بسبب الأزمة الاقتصادية، وصعوبة الوصول إلى مراكز الخدمة المتخصصة التي انحسر عددها على الأراضي اللبنانية، يجعل النساء بحسب عناني “يترددن في طلب المساعدة، مع إعطاء الأولوية إلى الوضع المعيشي وتلبية احتياجات أطفالهن على حساب سلامتهن وتوفير الدعم اللازم لهن”.
ومن بين العوامل التي تعزز ارتفاع معدلات العنف، برأي عناني “شعور النساء بالعجز وفقدان الثقة، واليأس من تحقيق نتائج في ظل الوضع العام المتردي في لبنان وسيادة ثقافة لوم الضحية. يضاف إلى ذلك الفساد المستشري في البلاد على كافة المستويات. ففي السابق، كانت النساء تبلغ عما تتعرض له في مراحل مبكرة، لكن اليوم، لا نسمع عن حالات العنف إلا بعد وصولها إلى ذروتها ومنها جرائم القتل، نتيجة عدم الإبلاغ المبكر وبالتالي عدم تلقي الدعم اللازم”.
رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة، لورا صفير، ترى أن عوامل عدة تساهم في زيادة معدلات العنف، منها “الثقافة المجتمعية وغياب القوانين الرادعة والحمائية للمرأة، بالإضافة إلى عدم تشديد العقوبات بشكل كاف على المعنفين، ونقص التوعية التي تمكن النساء من حماية أنفسهن وعائلاتهن وبيئتهن”.
ومن العوامل المساهمة كذلك في زيادة حالات العنف بحسب ما تقوله صفير لموقع “الحرة” “الوضع الاقتصادي المتردي، حيث تجد المرأة صعوبة في تحقيق استقلاليتها الاقتصادية، ويفاقم انتشار الأسلحة الفردية، عمليات العنف ضدها، مشكلا تهديدا مباشرا لأمنها وسلامتها”.
من جانبها تقول أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، الدكتورة أديبة حمدان “تظهر نتائج الأزمات المتراكمة وغياب التشريعات الرادعة، سلوك الرجل العنيف تجاه المرأة”.
وتشدد حمدان في حديث مع موقع “الحرة” على أن “العنف كسلسلة متصلة ينتقل من جيل إلى آخر، بدءا من الرجل ضد المرأة، ثم من المرأة ضد أبنائها، وأخيرا من الأبناء ضد أصدقائهم، فالأولاد يتأثرون بشكل كبير بما يحدث في بيتهم ويرثون الفكر الذكوري الذي ينظر للمرأة بدونية”.
عنف عابر للحدود
لا يقتصر العنف ضد المرأة اللبنانية على حدود وطنها، فقد لقيت أميرة مغنية مصرعها في أستراليا على يد زوجها. هي التي عانت خلال رحلة زواجها التي امتدت عشر سنوات كما تقول والدتها جميلة مغنية “من تعنيف لفظي وخيانة زوجية، صبرت من أجل أطفالها، وبعدما انفصلت عن زوجها مدة سنة، وطلبت الطلاق، استدرجها في يوليو الماضي محاولا اغتصابها قبل أن يقتلها لتعود إلينا بنعش”.
وتشدد الوالدة المفجوعة في حديث مع موقع “الحرة” على أنه “ها نحن ننتظر محاكمته ونطالب بأقصى عقوبة له، وإن كانت القوانين الأسترالية لا تنص على عقوبة الإعدام فالمؤبد أقل ما يستحقه على ما ارتكبه بحق ابنتي”.
ترك رحيل أميرة كما تقول والدتها “فراغا هائلا في أرواحنا، وفوق هذا حرمتنا عائلة قاتلها من رؤية أطفالها (أعمارهم بين سنتين وتسع سنوات) التحدث معهم عبر الهاتف، بعدما انتقلوا للعيش في منزل عمتهم في أستراليا”.
لا يزال العنف ضد النساء والفتيات واحدا من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارا في العالم، كما أكدت الأمم المتحدة في نوفمبر الماضي، وعلى الصعيد العالمي، تعرض ما يقدر بنحو 736 مليون امرأة – أي واحدة من بين كل ثلاث نساء تقريبا – للعنف الجسدي و/أو الجنسي من قبل الشريك الحميم، أو العنف الجنسي من غير الشريك، أو كليهما مرة واحدة على الأقل في حياتهن.
ولا يقتصر الأمر في لبنان على ارتفاع نسبة جرائم قتل النساء، فوفقا للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة ضحايا الاعتداء الجنسي على النساء والفتيات أيضا خلال العام 2023 مقارنة بسنة 2022، وبلغ عددهن 172 ضحية، أي بمعدل 14 ضحية شهريا أما عام 2022 فقد بلغ عدد الشكاوى 121، فيما بلغ عدد ضحايا الابتزاز الإلكتروني 407 ضحية لعام 2023.
وتعزو صفير ارتفاع نسبة جرائم الابتزاز الإلكتروني “إلى الفوضى وغياب الرقابة، مما يستدعي تكثيف جهود التوعية للفتيات حول مخاطر هذه الظاهرة وكيفية حماية أنفسهن، كما أن التفلت الأمني يفاقم من حالات التحرش الجنسي لاسيما في أماكن العمل، حيث يتم استغلال حاجة النساء إلى وظيفة لإعالة أنفسهن وأسرهن”.
انتفاء الرادع
تظهر أرقام قوى الأمن الداخلي، كما تقول الناشطة الحقوقية، المحامية ديالا شحادة، أن النساء هن غالبا ضحايا الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وتشدد في حديث مع موقع “الحرة” أنه على “المؤسسات الأمنية لاسيما قوى الأمن الداخلي، والضابطات العدلية والقضاء الإسراع في تلبية أي استغاثة من نوع العنف الأسري خاصة على الفئات المستضعفة كالمرأة والأطفال، فمعاقبة مرتكبي العنف ضد النساء في مراحل مبكرة، سيحمي الكثير منهن من خطر الموت”.
أما الاستخفاف وعدم تلبية هذا النوع من الاستغاثة في وقت مبكر وبالجدية والصرامة المطلوبة لن يؤدي بحسب شحادة “إلا إلى تمادي المرتكب إلى درجة وصوله للقتل”.
من الناحية القانونية، شرع لبنان قوانين تحمي المرأة من العنف الأسري، منها قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من هذا العنف، وتقول شحادة “القوانين الحالية جيدة بما فيه الكفاية للمحاسبة الجادة على هذا النوع من الجرائم، ولكن المشكلة تكمن حين تكون الموارد البشرية المتوفرة للقوى الأمنية دون الحاجات الموجودة”.
كذلك تعتبر عناني أن قانون حماية النساء “خطوة متقدمة جدا للبنان والمنطقة العربية، لكن الأهم هو تنفيذه بشكل فعال، من خلال تسريع الإجراءات القانونية وتشديد العقوبات، وعلى الرغم من التعديلات التي أدخلت عليه في السنوات الأخيرة، فإن تطويره بما يتناسب مع العصر والإطار الحقوقي مطلوب، ولكن في الوقت الحالي، نحتاج إلى إحقاق العدالة”.
أما صفير فتقول “نحن بحاجة إلى قوانين رادعة، مع توفير آليات فعالة لتنفيذها، وإلى مراكز إيواء تحتضن المعنفات لفترات طويلة ومن دون شروط قاسية، بالإضافة إلى حملات توعية تستهدف النساء والمجتمع بشكل عام، كعدم تزويج الطفلات، وادماج هذه المفاهيم في المناهج التعليمية”.
كما ترى حمدان أنه “من مسؤولية السلطة وضع قوانين صارمة لمكافحة العنف ضد المرأة، وضمان تنفيذها بشكل فعال، وعلى المرأة التي تتعرض للعنف، أن تكون قادرة على الابتعاد عن الواقع المؤلم سواء كان المعنف زوجها أو فرد من أفراد عائلتها دون خوف من أي انتقاد يطالها، وهذا الأمر يتطلب منها أن تكون مستقلة ماديا”.
وقدم عدد من النواب الخميس مقترحا لقانون يناهض العنف ضد المرأة بالتعاون مع منظمة “كفى”، يستند في صياغته على أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، وأبرز ما يتضمنه حماية المرأة من كل أشكال العنف، وتكليف قضاة متخصصين وإنشاء محاكم متخصصة لضمان البت السريع بالقضايا، وتشديد العقوبات وتعويض الضحايا وتأهيلهن نفسيا.
طريق الخلاص
فاتورة العنف النفسية والطبية والاجتماعية والاقتصادية باهظة، بحسب وصف عناني “حيث يؤدي إلى معاناة الضحية من مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطرابات النوم والتغذية، بالإضافة إلى الآثار الطبية الناتجة عن الإصابات الجسدية، كما يؤثر أيضا على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، إذ قد يتسبب في غياب الضحية عن العمل وتراجع إنتاجيتها، مما يؤدي في بعض الحالات إلى فقدانها وظيفتها، ويجعل بعض النساء ينعزلن اجتماعيا ويفكرن في الانتحار أو حتى يقدمن عليه”.
ولن يتم كسر حلقة العنف إلا بكسر حاجز الصمت، لذلك تشدد مديرة “أبعاد” على ” أهمية الإبلاغ عن جرائم العنف وضرورة الاستجابة السريعة من قبل الضابطة العدلية والتحقيق في هذه القضايا وإحالتها الى القضاء المختص لإصدار الأحكام العادلة والرادعة”.
فلا بد بحسب عناني من أن “تتحدث المعنفات عما يتعرضن له سواء لجمعيات مختصة أو أصدقاء لتقديم المشورة والدعم اللازم لهن، ولا زالت المؤسسات النسوية كمنظمة أبعاد تقدم خدمات متعددة على مدار الساعة، بما في ذلك الإيواء الآمن في حالات الطوارئ، والدعم النفسي، والمرافقة، والإرشاد، والتثقيف بالحقوق القانونية، وتقديم الاستشارات القانونية، والتوكل أمام الجهات القضائية عند الحاجة، وتوفير الدعم النفسي والتمكين الاقتصادي وفقا لاحتياجات كل حالة”.
ويتطلب منع العنف ضد النساء والفتيات بحسب الأمم المتحدة “جهودا متضافرة طويلة الأمد ونهجا متعدد التخصصات يشمل زيادة الوعي بالعواقب السلبية لهذا العنف، ومعالجة الأسباب الجذرية للمشكلة عن طريق تغيير الأعراف الاجتماعية التمييزية والقوالب النمطية القائمة على النوع الاجتماعي ومن خلال مشاركة المجتمع بأكمله، وتمكين النساء والفتيات في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتعزيز مواردهن ومهاراتهن وتعزيز وصول الناجيات منهن إلى العدالة وإنهاء إفلات مرتكبي العنف ضدهن، من العقاب”.
وإلى كل امرأة موجودة على الأراضي اللبنانية توجهت عناني بالقول “أنت لست مسؤولة عما يحدث لك، حمايتك وسلامتك وسلامة أطفالك أولوية، كما أنك لست وحيدة، فهناك مؤسسات مختصة متاحة لخدمتك، ويجب أن تعرفي أن سلامتك مرتبطة بسلامة عائلتك والوطن”.