وتتعامل واشنطن، وفق المصادر، مع هذه المعلومات بجدية لمنع ترجمة التهديدات الإسرائيلية، بعدما عملت طوال الأشهر الستة الماضية على عدم تحويل لبنان إلى ساحة حرب شاملة، وهي تعي أن دول العالم لا يمكن أن تتحمل مرة أخرى نسخة مماثلة، ولو مصغّرة، لما جرى في غزة، في ظل إجماع دولي على منع تمدد الحرب إلى لبنان.ورغم أن التهديدات الإسرائيلية لم تتوقف، وتتراجع حدّتها أو ترتفع تبعاً للوقائع الميدانية، إلا أن الإيقاع الإسرائيلي بقي طوال الفترة الماضية ملتزماً الخطوط الحمر الأميركية، مع بعض الاستثناءات التي لُجمت. كذلك استغلت إسرائيل عدم رغبة إيران بتوسع الحرب، وتجاوبت مع رسائل أوروبية بإبقاء التصعيد بينها وبين حزب الله ضمن الأطر المعمول بها.
لكن، مع التحولات الأخيرة، ارتفعت لهجة التهديدات الإسرائيلية وأخذت منحى تصاعدياً مع الأخذ في الاعتبار عاملين أساسيين:أولاً، لن تعترف إسرائيل بقرار مجلس الأمن الأخير لوقف النار في غزة، وستأخذ الأوضاع نحو مزيد من التشدّد. ويؤكد ارتفاع منسوب التوتر بينها وبين الولايات المتحدة ما كانت تقوله علناً، منذ اليوم الأول لحرب غزة، بأنها لن تتراجع قبل تحقيق الأهداف التي وضعتها للحرب، ولن تتجاوب مع أي مقترحات أميركية أو أوروبية أو أممية. وظهّرت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الأخيرة إلى العلن التباين الحادّ بين الطرفين إزاء خطط إسرائيل لاستكمال الحرب في غزة لتشمل رفح.
ويفتح القرار الأممي أمامها مجالاً أوسع للوقوف موقفاً حاداً ليس إزاء غزة فحسب، بل امتداداً إلى لبنان مستفيدة من الخلاف مع الإدارة الأميركية وسعياً إلى الضغط على هذه الأخيرة قبل الانتخابات الأميركية، لتحويل هذا الصراع إلى مادة انتخابية دسمة، وهي ترى أنها بدأت تنجح في تحقيق ذلك، رغم كثافة الحملات الإعلامية تضامناً مع ضحايا الكارثة الإنسانية في غزة.
وهي لا تزال تبرمج إيقاع حملاتها الداخلية – والخارجية – نحو لبنان بذريعة منع تهديد أمن سكان الشمال مستقبلاً. وفي هذه الحال، لن يشكل القرار الدولي عائقاً أمامها، خصوصاً أن للبنان خبرة في استجابة إسرائيل لمثل هذه القرارات.عدم الالتزام بالقرار الدولي في شأن غزة سيحرر إسرائيل أيضاً من تبعات أي التزامات مع واشنطنثانياً، لم يأت القرار الدولي على ذكر لبنان، لا من قريب أو بعيد، وحصر المطالبة بوقف النار في غزة. وهذا يعني أن إسرائيل غير ملزمة في هذا الشق بأي موجبات أممية، فيما حزب الله هو الذي ربط نفسه بغزة وبوقفه أي عمل عسكري في حال توقّفت الحرب فيها.
وإذا كان الإسرائيليون التزموا بإيقاع معيّن في الحرب مع حزب الله، إلا أن الانتقال إلى مرحلة رفح وعدم الالتزام بالقرار الدولي، سيحرران إسرائيل أيضاً من تبعات أي التزامات مع واشنطن في هذا الأمر، بعد التحول في وجهة خلافهما.
كما يحمل القرار الدولي، بالنسبة إلى لبنان، وجهاً آخر يحيل إلى تعامله بنظرة مشكّكة، قبل أيام، مع الإحاطة التي قُدّمت إلى مجلس الأمن حول القرار 1701، فيما يتعامل مع القرار الحالي بنظرة مغايرة كلياً. وهذا يطرح على لبنان، في الأشهر المقبلة، تحدياً مماثلاً في التعامل مع التجديد للقوات الدولية ومتطلبات القرار 1701 وفق آليات جديدة. كما أن هذا الأمر سيكون من الآن أمام اختبار جدي للدول التي سبق أن دخلت على خط تفعيله أو على خط تعديل مهام القوات الدولية.
لكن حتى ذلك الوقت، يبقى استحقاق التهديد الإسرائيلي قائماً، مع رسائل بأن التعامل مع لبنان سيكون كوحدة متكاملة، بما أن لبنان الرسمي تعامل مع الرسائل التي تصله بتماهٍ مع مواقف حزب الله. أما الموقف الأميركي، بعد التباين بين واشنطن وتل أبيب، فسيواجه صعوبة كبرى في لجم أي تصعيد تجاه لبنان، في موازاة اتصالات مباشرة وغير مباشرة مع إيران لم تثمر حتى الساعة ما يمكن أن يشكل فرصة نهائية للتهدئة.
ووسط مشهد ميداني متأرجح ومشهد إقليمي صاخب، فإن إعادة توجيه الأنظار إلى لبنان تحمل في طياتها الكثير من مؤشرات القلق مرة أخرى.