شكّل إطلاق الحكومة مخطّط إعادة إعمار وتطوير مرفأ بيروت، بارقة أمل لافتة في توقيتها ودلالاتها، انطلاقًا من الدور المحوري للمرفأ في الاقتصاد اللبناني، كونه بوابة رئيسية للتجارة والاستيراد والتصدير، وأكبر الموانىء البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وممرّاً لأكثر من 300 مرفأ عالمي، بفضل امكاناته وموقعه، فضلًا عن دوره المرتقب في إعادة إعمار سوريا.
برز في حفل إطلاق المخطط، أمران مهمّان، الأول تأكيد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّ إعادة إعمار المرفأ ستسلك طريق التنفيذ بأسرع وقت ممكن، والثاني أنّ التمويل سيكون من إيرادات المرفأ نفسه بالدرجة الأولى، والتي سجّلت في الآونة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا.
الخطوة التالية: تحضير دفاتر الشروط
بعد إطلاق مشروع إعادة إعمار المرفأ، وهو مخطّط أنجزته شركتان هندسيتان فرنسيتان هما “أرتيليا” و”إيجيس”، تتجه الأنظار إلى الخطوة التالية التي من شأنها أن تطلق مسار ترجمة المخطّط على أرض الواقع، بحيث تعمل إدارة المرفأ على تحضير دفتر الشروط، وفق ما أكّد لـ “لبنان 24” رئيس مجلس الإدارة المدير العام لمرفأ بيروت عمر عيتاني “نحن بصدد تحضير دفاتر الشروط تقنيًّا وإداريًّا، بناءً لقانون الشراء العام، وسنسير بها، وسنرى ما إذا كان الفرنسيون من خلال الشركتين اللتين وضعتا مخطط التطوير، سيساهمون في تقديم المساعدة بوضع المواصفات الفنيّة للدفاتر، أو فتح باب المناقصات مع شركات أخرى. وسيكون لدينا دفتر شروط خاص بكلّ جزء من أجزاء المرفأ، وتتوزع الدفاتر بين صيانة الأرصفة، وتعميق الأحواض، وتنظيم المساحات للطاقة الشمسيّة، وإعادة تنظيم خطّة السير داخل المرفأ وعلى مداخله، ومحطة الركاب، وتنظيف الحوض الرابع. حاليًا نحن في إطار تحضير وإنجاز كلّ هذه الدفاتر مجتمعة، ولكن لن نطلقها دفعة واحدة، بل سنطلق كل دفتر على حدى، ووفق الأولويات. يلي ذلك فتح باب المناقصة أمام كل الشركات الاستثماريّة المتخصّصة المحليّة والعالميّة، الراغبة في الاستثمار”.
اهراءات القمح خارج الخطّة الفرنسيّة
لم يأتي المخطط على ذكر صوامع القمح، الشاهدة على جريمة الرابع من آب عام عام 2020 وضحاياه، وهو ما أوضحه السفير الفرنسي هرفيه ماغرو في حفل إطلاق المخطط “نحن ندرك رمزية الإهراءات وبالتالي لم تشملها الدراسات، إذ لا يعود للخبراء الفرنسيين اتخاذ القرار بشأنها”. بدوره أكّد عيتاني أنّ ما تبقّى من اهراءات لن يتمّ المسّ بها، ولن يكون هناك دفتر شروط خاص بها “تركنا هذه المنطقة التي تشمل الاهراءات ومحيطها الضيق، بانتظار القرار الحكومي في هذا الشأن”.
تمويل إعمار المرفأ من مداخيله
في السنوات التي أعقبت تفجير المرفأ، تناول اقتصاديون كلفة إعادة إعماره، وتحدّثوا عن أرقام كبيرة قُدّرت بمليارات الدولارات، في حين أنّ الحكومة وإدارة المرفأ قدّرت الكلفة بما لا يتجاوز الـ 100 مليون دولار. من جهته أوضح عيتاني “بالفعل تمّ طرح مشاريع لإعادة إعمار المرفأ بكلفة وصلت إلى 5 مليار دولار، ومشاريع أخرى قدّرت الكلفة بـ 800 مليون دولار. نحن اليوم قدّرنا التكلفة الأوليّة بنسبة تراوحت بين 60 و100 مليون دولار، وهناك نوعان من الاستثمار، بعضهما سيكون ضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص، مثلًا في إطلاق محطّة الركاب سيحصل نوع من bot، تكون فيها الإدارة من القطاع الخاص، ولكنّها مملوكة من الدولة. وهناك كلفة الصيانة، لاسيّما وأنّ المرفأ كان بحاجة إلى صيانة وتطوير في العديد من جوانبه قبل الإنفجار”.
اللافت في مخطّط إعادة إعمار المرفأ أنّ التمويل الأساسي سيكون من إيراداته الذاتيّة، من دون الحاجة إلى قروض خارجيّة، لاسيّما وأنّ المرفأ ورغم وضعه الحالي، يحقّق إيرادات ترتفع من عام إلى آخر، بفضل عملية تفعيله، حيث وصلت إلى ما يقارب 160 مليون دولار العام الماضي، بعد أن كانت قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها عام 2020، وبلغت في حينه ما يقارب 9 ملايين دولار أميركي، وفق عيتاني “كذلك واصل المرفأ تحقيق أرقام قياسية فيما خصّ موضوع الحاويات، حيث وصل عدد الحاويات النمطيّة التي تعامل معها المرفأ في شهر آب الماضي إلى ما يقارب 90 ألف حاوية، مع العلم أنّ هذا الرقم لم يحقّقه المرفأ منذ عام 2019. وسنعمل على رفع المصاريف التشغيليّة والتطويريّة لتصب في صالح إعادة إعمار المرفأ، هذه المصاريف بلغت العام الماضي 18%، ونخطّط لرفعها إلى حدود 40%، مقسّمة على مدى سنتين أو ثلاث، بحسب المدى الزمني لإعادة الإعمار”.
الدور المحوري للمرفأ شرق المتوسط
لطالما لعب مرفأ بيروت دور بوابة المشرق البحرية، بفضل موقعه الاستراتيجي على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، فهل ستعود مكانته الإقتصادية والاستراتيجية بعد إعادة إعماره؟ يجيب عيتاني “المرفأ يقوم حاليّا بدوره، وقبل الخطّة الموضوعة لتطويره، ونحن مستعّدون لتقديم كلّ الخدمات المرفئية في حال بدأت عملية إعادة إعمار سوريا، وسنستكمل تطويره ليكون مرتكزًا للخطوط الهندية ولخط التنمية العراقي، إذا ما اعتُمد لهذا الدور المحوري”.
الطاقة الشمسية
من ضمن مخطط تطوير المرفأ، سيعمل المرفأ بنظام الطاقة الشمسية وفق دراسة أعدتها شركة EDF الفرنسية، لإنشاء الطاقة المستدامة عبر تخصيص 50 ألف متر مربع من مساحاته لألواح الطاقة الشمسية. “وستعمل إدارة المرفأ على تحضير دفتر الشروط لإطلاقها في الوقت المناسب، وفق برنامج الأولويات التي تعمل إدارة المرفأ على ترتيبها”.
لعلّ أبرز ما تحقّق في رؤية تطوير المرفأ، إبقاء الملكيّة للدولة، التمويل الذاتي، وتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في هذا المرفق الحيوي الاستراتيجي. وهنا يُسجّل للحكومة ولإدارة المرفأ، جهودهم لإطلاق عجلة النهوض بأحد أهم المرافق في البلد، رغم كلّ التحديات التي يواجهها لبنان في مرحلة هي الأصعب في تاريخه الحديث. وفي ظل المضي قدمًا في مسار تطوير مرفأ بيروت، بعد حوالى ثلاث سنوات ونصف السنة على فاجعة الرابع من آب 2020، لا بدّ أن تترافق مسيرة الإعمار مع تحقيق العدالة، ومحاسبة جميع المتورطين في الجريمة.