| خلود شحادة |
يستيقظ كل يوم.. يتبضع أغراضه من الدكان.. يوصل ربما أبناءه إلى المدرسة.. يودع زوجته ذاهباً للعمل بثياب عادية جداً… ربما السيناريو يكون مختلفاً إن كان الرجل أعزباً!
يمسك كوفية حمراء وبيضاء، يلفها على وجهه، يجلس أمام الكاميرا.. يخطب في الجمهور من خلف الشاشة، فيرفع من معنوياته.. ويخاطب العدو من خلف الكوفية الفلسطينية، فيهزّ كيانه، ويفضح أكاذيبه، ويكشف خيوط العنكبوت في كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يُرعب الجيوش ويرتعب من كوفية!
هو “أبو الكوفية”.. “الملثّم”.. “الشبح”.. “البطل”.. “القائد”.. “أبو عبيدة”…
المعلومة الوحيدة عن “أبو عبيدة”، وهي غير مؤكدة أيضاً، أنه ابن غزة، ولد فيها وترعرع فيها، وعاش ظلم الإحتلال وقبح إجرامه. عدا ذلك، فإن كمية المعلومات المتوفرة عنه لا تتجاوز نسبة صفر في المائة بلغة الصحافة، وكل ما يتردد بحاجة إلى تأكيد.
لا سيرة ذاتية تشكّل طرف خيط لصياغة مقال عن شخص صار رمزاً.
“أبو الكوفية” فرض على القوى “العظمى” في العالم، التسمّر أمام التلفاز لتعرف ما سيقول في خطابه.
“الملثّم”، سلب النوم من عيون أحد أقوى أجهزة التجسس في العالم، “الموساد” الإسرائيلي، لمحاولة معرفة ملامحه، وتحول سقف اهتماماتهم، في خضم الحرب الضروس على غزة، التهديد بكشف ملامح “أبو عبيدة”.
لا إسم، ولا صورة، ولا ملف له لدى “الموساد”، أو الاستخبارات العسكرية “أمان”، أو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”… شخصيته هي مجرد تخمينات “إسرائيلية”… لكنها بمثابة “كابوس”!
لم يختر اسماً معنوياً حتى، اكتفى باللقب الذي ينتمي إلى القائد التاريخي في الإسلام “أبو عبيدة بن الجراح”، فهو لا تعنيه أضواء الشهرة الشخصية، هو القائد المجهول شكلاً وإسماً، المشهور صوتاً وفعلاً.
الجميع “يعرفه”، لكن لا أحد يعرف من هو!
ربما تعرفه قلة قليلة جداً من ضمن الحلقة الضيقة في “كتائب عز الدين القسام”، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
“أبو عبيدة”.. إسم معروف لكل فلسطيني وعربي.. وللإسرائيليين أيضاً، بوصفه المتحدث الإعلامي باسم “كتائب عز الدين القسام” (الناطق العسكري)، كأنه يتقمص وظيفة وزير الإعلام، لكنه في الواقع قائد ميداني من أوائل المطلوبين في لوائح الاغتيال الإسرائيلية.
لا يقتصر دور “أبو عبيدة” على تلاوة البيانات الرسمية لـ”كتائب القسام”، فالبيانات تصدر بشكل روتيني. يتولّى “أبو عبيدة” ـ عملياً ـ دور “قائد الحملة” الإعلامية التي تواجه “ماكينات” الدعاية الصهيونية الضخمة في كل العالم والأموال الهائلة التي تُنفق على تشويه صورة حركة “حماس” و”كتائب القسام”. وقد نجح، بأسلوبه الخاص، وهويته المجهولة، في جذب أنظار العالم، ودحض الأكاذيب، وإظهار صورة مغايرة للدعاية الصهيونية، وكشف ضعف الاحتلال الإسرائيلي.
لكن “أبو عبيدة” يقود أيضاً حرباً نفسية ضخمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد نجح ببثّ الرعب في صفوف قوات الاحتلال، وهذا ما يمكن استقاؤه من الصحافة العبرية وجنون مسؤولي كيان الإحتلال، كما أنه نجح في تثبيت مصداقية كلامه، واخترق عقول “الإسرائيليين” الذين يصدقونه أكثر مما يصدّقون بيانات حكومتهم والناطقين بلسان جيشهم.
وعلى خط موازٍ، صار “أبو عبيدة”، حالة فريدة في رفع المعنويات الجهادية والقتالية، لدى الشعوب العربية عامة، ولدى الفلسطينيين خصوصاً، بعد ما شكله من قوة خفية ـ ظاهرة، مع كل إطلالة له.
“المصداقية والدقة”، أكثر ما رافق خطابات “أبو عبيدة”، وهو الحريص على إعلان عدد الدبابات والآليات والقتلى والجرحى في صفوف العدو، بالتفصيل الممل، مما أكسبه ثقة كبيرة بين الجماهير.
حتى أن المراسلة العسكرية الإسرائيلية غيلي كوهين قالت إن “الجمهور الإسرائيلي يثق بتصريحات الناطق باسم القسام أكثر من الناطقين الرسميين الإسرائيليين”.
يعطي غموض شخصيته ولباسه نوعاً من التأثير، ويمزج في خطاباته بين المرونة والحدة في نبرات صوته وحركات يده وطريقة تحريك أصابعه، وبطريقة سرد تفاصيل الأحداث والمعلومات العسكرية والسياسية بدقة، وفق الأولويات، ومن دون إطالة وبلا انفعالية زائدة.
يدرك “أبو عبيدة” أنه يواجه آلة دعاية إسرائيلية وغربية ضخمة، فهو يعطي كل مرة المعلومة اللازمة والأساسية والجديدة، وذات المصداقية التي تضطر “إسرائيل” للاعتراف بها لاحقاً.
قاده كل ذلك لأن يصبح، لدى ملايين المتابعين العرب وفي العالم الإسلامي، معياراً ومقياساً وصدى لطبيعة المعارك بأكثر مما يقوم به أي ناطق عسكري.
هو البعيد القريب، فرغم انشغاله بالحرب على غزة، إلا انه لم يفته أن يحي للشعب العربي، أنه يتابع الأخبار لحظة بلحظة، ليخبرهم أن تحيتهم قد وصلت، عبر توجيهه التحية للشعبين المصري والأردني، عقب توجيههم التحية له ورفع صوره خلال تظاهرات عمت البلاد دعماً للقضية الفلسطينية.
كان أول ظهور لـ”أبو عبيدة” في عامي 2002 و2003 كأحد مسؤولي “القسام” الميدانيين.
وكان يتحدث إلى جميع وسائل الإعلام تقريباً وفي المؤتمرات الصحافية، ولم يظهر أبداً مكشوف الوجه، مقتديا بذلك بالقيادي السابق في “القسام” عماد عقل، الذي استشهد العام 1993 وكان ينفذ جميع عملياته معتمراً كوفية حمراء. وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة العام 2005، عُين “أبو عبيدة” رسميا ناطقا باسم “القسام”.
عرفه العد الصهيوني أول مرة بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006.
يحظى بكاريزما عالية أمام الكاميرا، على الرغم من أنه “ملثم”. لكنه، من خلال الكوفية التي تغطي وجهه، وثباته الانفعالي في الخطابات، والنظرة الحادة من عينيه الظاهرتين، وحركة إصبعه، وكلماته القوية… أرعب العدو الإسرائيلي، وطمأن المظلومين في أرضهم، أهل غزة وكل فلسطين.
بات أبو عبيدة قائداً لـ”الأمة”، يختزل صوت المعركة والقضية. وكأن الجمهور يسال عند كل لحظة يشعر فيها بالخسارة، متى يأتي “أبو عبيدة”؟
لا يهم الحضور الكامل، يكفي الصوت والكوفية الحمراء المميزة، هذا الصوت الذي مهّد لمرحلة جديدة من النضال الفلسطيني المسلح.
بين أجيال مختلفة، وانتماءات متباينة، صنع “أبو عبيدة” لنفسه شعبية لم يطلبها ولم يكن ساعيا وراءها، لكنها يندر أن تتكرر. شهرة تناقض مفاهيم “النجومية” بمقاييس الحضور والجمال، هو القائد بلا ملامح، والمشهور بلا إسم، و”الملثم” الأكثر وضوحاً، الذي أصبح حديث العالم.
لم يتغير بأبو عبيدة منذ ظهوره الأول العام 2006، فقط تغيّر لون الكوفية والخلفيات و”العصبة” على رأسه. بقي على حاله: إيقاع الصوت الواثق، ودقة الإلقاء، واختيار المفردات والتراكيب، وترتيب المعلومات، ولغة اليدين، والإلمام بما يقول…
من جمال عبد الناصر إلى تشي غيفارا وفيديل كاسترو وغيرهم، تعددت وكثرت الوجوه التي أصبحت في ما بعد رمزاً للأمم… إلّا أن حالة “أبو عبيدة” بقيت فريدة من نوعها على مرّ التاريخ: شخص بلا ملامح، مجهول الهوية، يشكل عامل رعب لأعدائه، ويحظى بكل هذه الشعبية والمصداقية… ثم يصبح رمزاً لأمة مكسورة يائسة تكاد تستسلم لـ”التركيع” تحت عناوين “التطبيع”، فيستنهض فيها ما بقي من كرامة وعنفوان وقوة وبأس!
هو جزء من أسطورة غزة، التي كسرت أسطورة “تل أبيب” وجيشها الذي لا يقهر، فجاء الزمان والمكان الذي قهرها فيه رجل بلا ملامح، أسقط ورفاقه ورقة التوت عن كيان الاحتلال الهش.
أسطورة، تحولت إلى ما يشبه الظاهرة الشعبية، نظمت أبيات الشعر و”ردات” الزجل على مثال: “يا ملثم يا أبو الكوفية يا رعب اليهود.. يا أبو عبيدة الهمة قوية تصريحك بارود”.