| جورج علم |
يتثاءب “تنين البحر” فيبتلع خمسة من الجنود الأميركييّن. إنها الفاتورة الأولى في دفتر الحساب. ليس المتوسط بالأتلانتيك، ولا أمواجه أعاصير جارفة، لكنه في مواسم الدموع والأحزان يتجرأ حتى على الأساطيل، وحاملات الطائرات إذا كانت من النوع الذي يحوّل حاضنة الأطفال مقبرة!
آن أوان الحساب، وإن كان مسلسل الجنازات لم ينته فصولاً بعد. جاء الأميركي بأساطيله إلى المتوسط تحت شعار حماية “إسرائيل” من “طوفان الأقصى”. لا يستأهل “الطوفان” هذه “العراضة” المسلحة، ولا يقتنع الرأي العام بالأسباب المعلنة.
هناك “بنك أهداف”، وفليم أميركي طويل في الشرق الأوسط، عُرفت بداياته، ولكن أحداً لا يعرف كيف ستكون نهاياته، ومتى؟!
دخل الرئيس جو بايدن البيت الأبيض في كانون الثاني 2021، واعداً بإعادة الوحدة إلى المجتمع الأميركي بعد الإنقسام الذي أحدثه الرئيس دونالد ترامب، لكنه يواجه حالياً، وفي نهاية ولايته، إتهامات أكثر خطورة بتقسيم المجتمع الأميركي بين مؤيد لدعم كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبين متعاطف مع أطفال غزّة، وقد ظهر ذلك جليّاً في حرم الجامعات، والمظاهرات الحاشدة حول المقرّات الرسميّة الأميركيّة.
ويأتي ساعي البريد يوميّاً حاملا إليه قصاصات الصحف، والتقارير التي تتحدث عن موجة الغضب التي تجتاح العالم العربي والإسلامي، ومجتمعات الدول المؤمنة بحقوق الإنسان ضد الأسلوب القائم على كتابة صكوك المصالح بدماء أطفال غزّة.
مصالح إنتخابيّة، ربما، وربما ما هو أبعد، دفعت بالإدارة الأميركيّة إلى تقديم دعم إستثنائيّ لإسرائيل. وروّجت “لحقّها المشروع” في الدفاع عن النفس. وفتحت مستودعاتها الحربيّة أمام حكومة نتنياهو لتدمير “حماس”. وقدّمت مساندة ماليّة فوريّة بقيمة 14 مليار دولار، إضافة إلى أسلحة متطوّرة. وحذّرت من فتح جبهات جديدة. ونبّهت من توسيع رقعة الحرب.
وساندت الموقف الإسرائيلي في رفض الدعوات الدوليّة إلى وقف المجازر في غزّة. وإشترطت القبول بوقف إطلاق النار بعد إطلاق الرهائن. وعارضت الجهود في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، وحماية المدنييّن في غزّة. واستخفت بقرار 120 دولة صوتت لإنقاذ ما تبقى من “حقوق الإنسان”!
لقد بدأ “طوفان” الحساب يحاصر “طوفان” الدعم الأميركي “للهولوكوست” الإسرائيلي. ومن المؤشرات:
إستقالة مسؤول بارز في الخارجيّة الأميركيّة إحتجاجاً على الدعم اللامحدود للإحتلال الإسرائيلي، والسياسة المتبعة، والتي لا تقيم وزناً للشرعيّة الدوليّة، وحقوق الإنسان.
إصدار مذكّرة موقعة من 100 من العاملين في الخارجيّة الأميركيّة، و”وكالة التنمية الدوليّة”، تتهم الرئيس بايدن بنشر معلومات “مضلّلة” حول الحرب بين “إسرائيل”، وحركة “حماس”. وتؤكد على أن “إسرائيل” ترتكب “جرائم حرب” في غزّة.
والحساب الأكبر، والأكثر دلالة، جاء من القمة العربيّة – الإسلاميّة التي استضافتها الرياض مؤخراً. أكثر من رئيس 57 دولة قالوا لا لسياسة بايدن، وإدارته. قالوا لا للمجازر الإسرائيليّة التي تركب بحق أطفال غزّة. قالوا نعم لوقف فوري لإطلاق النار.
ليس سهلاً على الرئيس بايدن وإدارته أن يتجاهلا هذه القمّة ـ الحدث. ليس سهلاً أن يتغاضيا عن موقف هذه الكتلة التي تمثل مليار ونصف المليار عربي ومسلم، تقول لا للسياسة الأميركيّة المتعاطفة مع “إسرائيل”. ولا للمجازر الإسرائيلية بحق فلسطينييّ غزة.
لقد شكّلت قمة الرياض صفعة معنويّة مدويّة لسياسة الإنحياز الأميركيّة. ليس بالقليل أن يكون الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في العاصمة السعوديّة، ولا بالقليل أن تكون القمّة الحضن الدافىء للمصالحة، وتوحيد الكلمة، ورصّ الصف لمواجهة بنك الأهداف الأميركي، وما بعد غزة. لم يكن المشهد مألوفاً للرئيس الأميركي وهو يرى الرئيس الإيراني إلى جانب ولي العهد السعودي، والرئيس التركي، والرئيس المصري، وكلّ الآخرين من الزعماء العرب والمسلمين…
قد يقال وماذا بعد القمّة؟ وأين “تقرّش” مقرراتها؟
الجواب حملته كبريات الصحف ووسائل الإعلام الأميركيّة، ومرتكزاته أربعة:
• شكّلت القمة أكبر تجمّع عربي ـ إسلامي متعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة، مندّداً بالمجازر الإسرائيليّة، وقال بأنها ترقى إلى “جرائم حرب”، منتقداً الإزدواجيّة الأميركيّة، وعلى قاعدة “جرح طفل أوكرانيّ جريمة لا تغتفر… وإبادة أطفال غزّة مسألة فيها نظر”!
إن هذه “الإزدواجيّة” التي تمليها لعبة المصالح، وحسابات الربح والخسارة عندما تفتح صناديق الإقتراع في الولايات الأميركيّة، مرفوضة بالمطلق، ولا يجوز أن تعبر فوق الأشلاء الطريّة البريئة.
• إن المقررات التي تضمّنها البيان الختامي للقمة، تلتقي مع المواقف الروسيّة والصينيّة تجاه ما يجري في غزّة. وهذا يؤشر إلى قيام محور دولي كبير يضمّ إلى المجموعة العربيّة والإسلاميّة، روسيا والصين، وربما دول أخرى وازنة، وهذا ما يقلق بايدن الذي يسعى بأن تكون بلاده، هي المسيطرة، والممسكة بزمام الشرق الأوسط الجديد.
• إن ما صدر عن القمّة يشكّل إدانة صريحة ومكشوفة للسياسة الأميركيّة. يكفي أن يعكس البيان تشبث الزعماء المجتمعين بالشرعيّة الدوليّة، ومرجعيّة مجلس الأمن، والقرارات الصادرة عنه بشأن القضيّة الفلسطينيّة، والتذكير بحل الدولتين، والدعوة إلى مؤتمر سلام، والحرص على حقوق الإنسان، وتطبيق قوانين الحرب التي تستوجب حماية المدنييّن…
إنه زمن الحساب.. وقد آن أوانه قبل أن تجف الدماء البريئة في غزة…
لقد “أزعجت” الإدارة الأميركيّة العالم، وهي تدّعي الحرص على حقوق الإنسان.
كشف الحساب الأولي أظهر بأن أطفال غزّة لا تسري عليهم هذه الحقوق!