| ريا الجلبي |
في حزيران 2021، بينما كان لبنان يعاني من أزمة مالية منْهِكة؛ هبط رياض سلامة، محافظ البنك المركزي اللبناني، في مطار لو بورجيه في باريس على متن طائرة خاصة، حيث وجده مسؤولو الجمارك يحمل كميات كبيرة من النقود غير المصرح بها.
أخبر رياض سلامة، الذي يحمل الجنسية الفرنسية أيضًا، ضباط الحدود في البداية أنه كان يحمل 15,000 يورو فقط، لكنهم قاموا بتفتيش حقائبه ووجدوا بدلًا من ذلك 84,430 يورو و7,710 دولارات، وعندما طُلب منه تبرير المبالغ غير المعلنة، قال إنه ببساطة “نسي” أن النقود ـ الخاصة به ـ كانت في حقيبته، كما تظهر سجلات الشرطة.
يبدو أن الوجه العام للانهيار المالي في لبنان قد ينسي شخصًا ما حوالي 100,000 دولار، في الوقت الذي يُحرم فيه ملايين اللبنانيين من مدخرات حياتهم منذ انهيار النظام المصرفي في البلاد قبل عامين، ما يدل على الفجوة العميقة بين أسلوب حياته وأسلوب حياة معظمهم في عام 2021. فبينما أنفق سلامة ببذخ على الطائرات الخاصة والعاشقات.. فقد رأى اللبنانيون أن قيمة مدخراتهم تنخفض، وأصبحت رواتب موظفي الخدمة المدنية الآن أقل من 100 دولار شهريًا.
عُيِن سلامة عام 1993، وساعد في بناء اقتصاد ريعي من رماد الحرب الأهلية اللبنانية المدمرة، وتمت الإشادة به لمساعدته على استقرار البلاد خلال سنوات من عدم الاستقرار، وعلاقاته الحميمة مع النخب السياسية والمصرفية والرعاة الأجانب الأقوياء، ما يضمن طرح أسئلة قليلة جدًا عن أدواته المالية غير التقليدية.
غادر سلامة مكاتب البنك للمرة الأخيرة في تموز/يوليو الماضي؛ حيث هتف حشد صغير من المؤيدين للرجل البالغ من العمر 73 عامًا. لكن سمعته الآن في حالة يرثى لها؛ فقد شوِّهَتْ فترة عمله التي استمرت ثلاثين عامًا في بنك لبنان باتهامات بأنه ساعد في قيادة البلاد نحو الخراب. ومنذ ذلك الحين، فقد تم تشبيه النظام المالي الذي ساعد في صياغته بمخطط بونزي، وهو نظام أفقر ثلاثة أرباع السكان لكنه ترك أغنياءه ـ بمن فيهم هو نفسه ـ سالمين إلى حد كبير.
وفي الوقت نفسه؛ فهو محور التحقيقات القضائية في لبنان والولايات المتحدة وسبع دول أوروبية على الأقل تحقق في مزاعم الجرائم المالية بحقه، وأصدرت دولتان منها مذكرات توقيف بحقه. ففي 10 آب/ أغسطس؛ عوقب من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، وعلمت “فاينانشال تايمز” أن مكتب المدعي العام الأميركي في المنطقة الجنوبية من نيويورك فتح تحقيقًا في قضية سلامة، فيما رفض متحدث باسم مكتب المدعي العام الأميركي في المنطقة الجنوبية من نيويورك التعليق.
إن صعود رياض سلامة وسقوطه يعكسان حالة بلاده، التي عانت من عقود من الغطرسة والخداع والفساد، وهي الآن غارقة في ما وصفه البنك الدولي بأنه أحد أسوأ عهود الكساد الاقتصادي في العالم، “التي دبرتها النخبة في البلاد التي استولت على الدولة منذ فترة طويلة وعاشت على إيجاراته الاقتصادية”.
تقرير الشرطة من لو بورجيه هو من بين مجموعة من الوثائق التي استعرضتها “فاينانشال تايمز” من التحقيقات القضائية الأوروبية واللبنانية، والتي تحقق في مزاعم تورط سلامة في ممارسات مالية “على حساب الدولة”، وغسل أموال، وتورط في احتيال مالي واختلاس الأموال العامة. وتشمل هذه التقارير المحكمة والشرطة، والسجلات المالية، وتقارير مدققي الحسابات، وميزانيات الشركات، وعقود العقارات، بالإضافة إلى نصوص شهادات الشهود الذين كانوا في فلك سلامة.
تحققت “فاينانشال تايمز” من صحة الوثائق، وحيثما أمكن، استكملتها بمقابلات مع شخصيات رئيسية، قدمت معًا نظرة شاملة حول كيف قام سلامة بإساءة استغلال سلطات مكتبه لتحقيق مكاسب شخصية وإثبات نمط من توريط أسرته في شؤونه المالية.
يُتهم رياض سلامة، جنبًا إلى جنب مع شقيقه رجاء سلامة، بسرقة ما لا يقل عن 330 مليون دولار من الأموال العامة، وغسلها من خلال متاهة من الحسابات المصرفية الدولية والحسابات الخارجية المرتبطة بعائلته وعشيقاته المزعومات، وشراء عقارات فاخرة من ميونيخ إلى نيويورك، والاحتيال على البنك المركزي لاستئجار مساحات مكتبية باهظة الثمن في باريس من شركة يملكها.
تؤكد الوثائق أيضًا على التأثير الواسع لسلامة على القطاع المصرفي اللبناني، حيث اقترح المحققون أنه تواطأ مع البنوك التجارية من أجل المنفعة المتبادلة من خلال “المعاملات المشبوهة” والقروض بدون فوائد و”الترتيبات لإخفاء الخسائر”، ويبحث المحققون في أوروبا أيضًا في مدى مشاركة البنوك في هذه المخططات.
وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية، عند إعلانها عن عقوبات ضده، أن سلسلة الجرائم المزعومة التي ارتكبها سلامة “ساهمت في تفشي الفساد في لبنان ونشرت فكرة أن النخب في لبنان لا تحتاج إلى الالتزام بنفس القواعد التي تنطبق على جميع اللبنانيين”.
رفض سلامة، الذي نفى منذ فترة طويلة جميع مزاعم سوء السلوك، التعليق على تساؤلات “فاينانشال تايمز” بشأن التحقيقات الجارية، لأنه “يحترم القانون وسرية الاستجوابات”.
الهندسة المالية
تولى سلامة منصبه في عام 1993، وقد عينه رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الذي جاء بعد الحرب الأهلية. وعلى عكس أسلافه؛ فقد جاء سلامة من عالم المال: فلقد أدار محفظة الحريري أثناء عمله كمصرفي استثماري في “ميريل لينش” في باريس.
عمل الرجلان جنبًا إلى جنب لبدء الانتعاش الاقتصادي في لبنان بعد 15 عامًا من الحرب الأهلية المدمرة؛ حيث استمر النظام المالي اللبناني في الاعتماد بشكل أساسي على التدفقات الأجنبية الواردة من دول الخليج العربية والمواطنين اللبنانيين الأثرياء، واستغلال قوانين السرية المصرفية.
وللحفاظ على أن تبقى أسعار الاقتراض في متناول الجميع وتمويل خطط إعادة الإعمار التي وضعها الحريري، فقد حدد الثنائي سعر الليرة اللبنانية عند 1507 ليرات للدولار، حيث بقيت حتى شباط/ فبراير الماضي. وبعد مرور ثلاثة عقود؛ يشير الاقتصاديون إلى قرار سلامة بالحفاظ على سعر الصرف الثابت مهما كانت التكلفة، باعتباره أصل التعفن الحالي لأن النظام كان يعتمد كليًا على الدولارات الواردة.
لسنوات؛ أعاد لبنان البناء لكنه عاش بما يتجاوز إمكانياته، وبلغ متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 150 في المائة ـ وهي واحدة من أعلى المعدلات في العالم ـ لمعظم العقدين الماضيين، وسرعان ما أُطلق على سلامة لقب “الساحر” حيث ظل الاقتصاد مرنًا خلال فترات الصراع والفوضى السياسية.
في غضون ذلك؛ توقف مصرف لبنان عن نشر بيانات الأرباح والخسائر، وبدلاً من ذلك فقد أعلن عن مكاسب على أساس سنوي من خلال الحيل المحاسبية، وهي الحقائق التي وردت في نتائج تدقيق جنائي حديث لمصرف لبنان.
ونما نفوذه بين الرعاة الأجانب والمصرفيين والنخب السياسية؛ حيث تقول مصادر مصرفية رفيعة وموظفون سابقون في مصرف لبنان إن سلامة “أدار [مصرف لبنان] مثل إمبراطور”، وتزعم الوثائق القضائية أن لديه “سيطرة مطلقة” على عمليات المصرف، كما أنه استفاد من عمليات الإنقاذ وشروط القرض المواتية لكسب المصرفيين المرتبطين بالسياسة.
بدأ تدفق الأموال الخليجية في التباطؤ بعد سنوات من عدم الاستقرار، بما في ذلك حرب عام 2006 بين حزب الله و”إسرائيل” والحرب في سوريا؛ حيث تحول سلامة إلى ما أسماه “الهندسة المالية”: تحفيز البنوك التجارية على زيادة ودائعها الدولارية في مصرف لبنان بفائدة تصل إلى 12 في المائة، من أجل تدعيم المخزون الضخم من الاحتياطيات الأجنبية التي كانت أساسية لاستقرار العملة. في المقابل؛ قدمت البنوك معدلات فائدة عالية للغاية لعملائها على الودائع متعددة السنوات.
وحولت البنوك اللبنانية معظم سيولة العملات الأجنبية لديها من البنوك المراسلة في الخارج إلى ودائع في مصرف لبنان. خلال سنوات الحرب الأهلية 1975- 1990؛ احتفظت البنوك بنحو 90 في المائة من احتياطياتها في شكل أصول سائلة، وفقًا للخبير الاقتصادي توفيق جاسبارد. وبحلول عام 2019، انخفضت الاحتياطيات إلى 7 في المائة.
في ذلك الوقت؛ تم استثمار أكثر من ثلثي الودائع المصرفية اللبنانية مع الدولة، وفقًا لجوان شاكر، الخبيرة في تاريخ لبنان الاقتصادي، وكانت معدلات العائد مرتفعة بشكل غير طبيعي: فالمدفوعات السنوية على الدين العام المستحق شكلت أكثر من ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي سنويًّا، وهو ما وصفه السياسيون والاقتصاديون فيما بعد بأنه “مخطط بونزي ترعاه الدولة”.
لقد انهار كل شيء في عام 2019 وكان له تأثير مدمر؛ فبعد عقد من عدم الاستقرار الإقليمي، لم يعد هناك ما يكفي من الدولارات لإبقاء النظام قائمًا. وانخفض الجنيه (هكذا ورد في المصدر الأصلي ـ المترجم) إلى أدنى مستوياته التاريخية وفرضت البنوك تخفيضات على عمليات سحب العملاء، وهي إجراءات شجعتها حكومة خاملة وسيئة الحظ، فلقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40 في المائة والتضخم في الوقت الحالي يتكون من ثلاثة أرقام.
ركز الكثير من الغضب العام على سلامة؛ حيث حمله العديد من اللبنانيين المسؤولية الشخصية عن القضاء على مدخراتهم والسماح للمصارف بالتوقف عن صرفها؛ حيث يقول محمد علي حسن، وهو صاحب متجر شوهد وهو يغادر بغضب مصرف لبنان للمرة الأخيرة في 31 تموز/ يوليو: “لقد فقدنا كل شيء بسببه. الشيء الوحيد الذي يرضي غضبي هو رؤيته خلف القضبان”.
الدفع لرجال “فورِّي”
على عكس معظم اللبنانيين، يبدو أن ثروة سلامة الشخصية قد نمت خلال الأزمة، ففي وقت سابق من هذا العام؛ أخبر سلامة المحققين الأوروبيين أثناء استجوابه أنه في عام 1993 بلغت قيمة ممتلكاته النقدية والعقارات 60 مليون دولار، بما في ذلك 8 ملايين دولار من أراضي العائلة الموروثة.
وقال إن ثروته الآن تبلغ 200 مليون دولار، ما يعني أنه ضاعف ثروته الفعلية أكثر من ثلاثة أضعاف في غضون 30 عامًا.
وقال سلامة إن ثروته تراكمت في سنوات عمله كمصرفي استثماري وما تلاه من استثمارات حكيمة. ومع ذلك، فقد خلصت دراسة مالية بتكليف من محققين ألمان في عام 2022 إلى أن سلامة “لم يكن بإمكانه أن يجمع ثروته كلها بالأموال التي كان يمتلكها بشكل شرعي قبل تولي منصب الحاكم”.
وقالت مصادر قريبة من التحقيقات لصحيفة فاينانشال تايمز، إن تقديرات سلامة لثروته متحفظة، بالنظر إلى أن العديد من الأصول من المحتمل أن تكون مخفية في الملاذات الضريبية أو تحجبها السرية المصرفية اللبنانية؛ حيث يقول أحدهم: “نحن ببساطة لا نعرف ما لا نعرفه”.
في عام 2020، أطلقت سويسرا تحقيقًا، تلاه في عام 2021 تحقيقات في لبنان وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، كما تحقق السلطات في موناكو وليختنشتاين وبلجيكا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في أنشطة سلامة.
في قلب التحقيق السويسري كانت شركة غير معروفة تدعى “فورِّي أسوشيتس”، والتي تأسست في عام 2001 ومسجلة في جزر فيرجن البريطانية، والشركة مملوكة بالكامل من قبل رجاء سلامة، الأخ الأصغر للحاكم.
يزعم المحققون الأوروبيون أن هذه الشركة كانت الوسيلة الرئيسية التي اختلس من خلالها سلامة حوالي 330 مليون دولار من مصرف لبنان بين عامي 2002 و2016، ووجه الكثير من هذه الأموال إلى عمليات الاستحواذ على العقارات الفاخرة في عواصم أوروبية ولبنان ونيويورك.
في 6 نيسان/ أبريل سنة 2002، وقعت “فورِّي” عقد وساطة مع مصرف لبنان، ما سمح لها بالعمل كوسيط بين مصرف لبنان والمصارف التجارية لشراء أو بيع أدوات مالية مثل سندات اليورو وسندات الخزانة وشهادات الإيداع.
وبموجب هذا العقد، الذي وقعه رياض سلامة ومدير شركة يُدعى كيفن والتر، حصلت فورِّي على أتعاب وساطة تصل إلى 0.38 في المائة من قيمة كل معاملة.
قال موظفو مصرف لبنان الذين قابلهم محققون أوروبيون العام الماضي إنهم ليس لديهم أي فواتير أو إيصالات تتعلق بفورِّي، وبدلاً من ذلك، أخبر سلامة المحققين بأنه تعامل مع تلك المعاملات بنفسه، وكلف أحد المرؤوسين بتنفيذ التحويلات إلى حساب “فورِّي”.
تم دفع العمولات مباشرة من البنوك التجارية إلى ما أسماه سلامة حساب المقاصة، وبعد ذلك تم توجيهها إلى حسابات فورِّي المصرفية في سويسرا، وأخبر سلامة المحققين بأن موظف مصرف لبنان الذي تعامل مع التحويلات سيرسل إليه خطابًا يشرح بالتفصيل كل معاملة ليوقعها.
بعد مرور أكثر من عامين على التحقيق؛ لم يثبت المحققون بعد أن فورِّي كانت لديها أي أنشطة تتجاوز تلقي الأموال من البنك المركزي، ولم يعثروا على قائمة بالعملاء ولا الموظفين ولا كيفن والتر.
وفي بحث أجري سنة 2022 عن مقر فورِّي في بيروت ـ نفس العنوان المسجل كمكتب رجاء سلامة السابق ـ لم يُعثر هناك على أي موظفين ولا خط هاتف ثابت ولا ورق يحمل اسم فورِّي عليه، كما أنها لم تنجح محاولات “فاينانشال تايمز” للاتصال بالشركة، ولم يجب رجاء سلامة على أي طلبات للتعليق، لكنه نفى في السابق ارتكاب أي مخالفات.
وكتب قاضي التحقيق الفرنسي “أود بوريسي” أن جميع معاملات الخصم ترتبط برجاء سلامة ورياض سلامة أو لشركات خارجية، مضيفًا أن العمولات “لا تتوافق مع أي خدمة حقيقية يؤديها فورِّي.. وقد استفاد بها رياض سلامة وأقاربه دون علم صاحب العمل”.
وأخبرت العديد من البنوك ـ التي دفعت عمولات لمصرف لبنان خلال الفترة المذكورة ـ المحققين أنهم لم يسمعوا عن فورِّي حتى تم الكشف عن وجودها في وسائل الإعلام ولم يكونوا على علم بأنهم كانوا يدفعون عمولات على معاملات تنطوي على أدوات مالية لشركة مملوكة لرجاء سلامة.
وأخبر رياض سلامة المحققين اللبنانيين بأن أحدًا من موظفي البنك لم يعرف بوجود فورِّي، وأن مدفوعات فورِّي لا يبدو أنها خضعت للرقابة النموذجية أو للتدقيق الخارجي، بحسب ما ورد في مذكرة موجزة كتبها قاض لبناني في شباط/ فبراير سنة 2022.
وقال محافظ البنك المركزي السابق للمحققين إن المجلس المركزي لمصرف لبنان كلفه بتوقيع عقد مع فورِّي في سنة 2001، لكن أعضاء المجلس المركزي السابق في مصرف لبنان أخبروا المحققين أن الأمر ليس كذلك؛ حيث تشير سجلات مصرف لبنان الداخلية وشهادات الشهود إلى أن العقد لم يُعرض أبدًا على أعضاء المجلس اللاحقين، الذين قالوا إنهم لم يكونوا على علم به.
وأكد رياض سلامة أن فورِّي كانت لديها عقد شرعي مع مصرف لبنان، وأخبر المحققين أنه لا يمكن الاستعانة به للاستدلال على أي من تصرفات الشركة، لأنه “لا علاقة له بفورِّي”.
وكجزء من دفاعه عن نفسه؛ استأجر سلامة شركة تدقيق محلية لإعداد تقرير قام بتبرئته، ووجدت الشركة أنه لم يتم إرسال أي أموال من مصرف لبنان إلى حسابات المحافظ أو حسابات فورِّي، لكن رئيس الشركة أخبر المحققين مؤخرًا أن عملية التدقيق ليست شاملة، حيث قدم سلامة بعض مقتطفات فقط لفحصها.
واجهت فورِّي مشكلة في سنة 2015، عندما اكتشف بنك “إتش إس بي سي” السويسري مخالفات في تحويلين بقيمة 7 ملايين دولار ـ وفقًا لتقرير مصرفي داخلي اطلعت عليه “فاينانشال تايمز” ـ وعندما طالب “إتش إس بي سي” بنسخة من العقد الأصلي لعام 2002، قدم رجاء نسخة بها تناقضات ملحوظة عن أصل مصرف لبنان، ورفض البنك معالجة هذه التحويلات وأغلق الحساب.
وقال محققون فرنسيون إن هذه التناقضات تعني أن عقد فورِّي الخاص بمصرف لبنان للتنمية “غير موجود من الناحية القانونية”.
ودرس المحققون تدفقات الأموال من حساب فورِّي في بنك “إتش إس بي سي” في سويسرا لبناء قضيتهم ضد آل سلامة وشركائهم المزعومين، حيث اتُبِعت عملية معقدة ومتعددة الطبقات عبر حسابات بنكية متعددة في أوروبا وآسيا والولايات المتحدة؛ وكذلك من خلال الشركات الخارجية والصناديق الاستئمانية في بنما وجزر فيرجن البريطانية وجزر كايمان وبليز وليختنشتاين ولوكسمبورغ.
وإجمالًا؛ تُظهر الوثائق القضائية أن حساب فورِّي حوّل أكثر من 248 مليون دولار إلى حسابات رجاء سلامة الشخصية في بنك “إتش إس بي سي” السويسري بعملات متعددة بين سنتيي 2002 و2016، ومن هناك، تم تتبع ما لا يقل عن 207 ملايين دولار إلى العديد من حساباته في خمسة بنوك لبنانية.
ونفت الحويك في جلسة استماع في باريس في حزيران/ يونيو الماضي التهم الموجهة إليها، ولم ترد على طلب فاينانشال تايمز للتعليق.
وتحقق فرنسا أيضًا مع مروان خير الدين، الرئيس التنفيذي لبنك “إيه إم”، والذي زعموا أنه ساعد سلامة وشقيقه في إخفاء أصول أموالهما، وأدى بحث السلطات الفرنسية عن أجهزته إلى إعطاء المدعين خيوطًا جديدة، وكشف تفاصيل محرجة عن مدفوعات سلامة للصحفيين والشخصيات العامة والمحامين وصديقاته، كما أنه يخضع لتحقيق رسمي في فرنسا، بتهمة التآمر الإجرامي وتهم غسل الأموال المشددة.
وقد نفى خير الدين بشدة في بيان له أن يكون هو أو بنك “إيه إم” “متورطين في أي عمل غير قانوني أو مخالفة” وقال إن المدفوعات المعنية تخضع لمتطلبات الامتثال ولا تتعارض مع المعايير المصرفية المعمول بها في لبنان.
شبكة مُحكمة
منذ تنحيه الشهر الماضي؛ يتساءل الكثيرون عن “ما إذا كان المحافظ الهارب قد يواجه العدالة، بعد ثلاثين عامًا في قلب السلطة”.
يُفترض على نطاق واسع أن سلامة سيبقى في لبنان لتجنب الاعتقال والاستجواب في الخارج، وهذا الترتيب يناسب سياسيي لبنان بشكل جيد؛ حيث يقول أحد كبار السياسيين: “طالما بقي هنا، فلن يشي [بأسرارهم]، وبهذا يبقى الجميع سعداء”، فالبنوك قلقة من المعلومات المتسربة بشأن الأموال التي خرجت من لبنان خلال الأزمة من قبل المودعين الأثرياء.
لكن الإفلات من العقاب منتشر في الدولة المتوسطية الصغيرة، فقد تعثرت التحقيقات في لبنان وسط شكاوى من مقاومة رعاة سلامة الأقوياء ورفضه التعاون؛ حيث تم مؤخرًا شطب قاضية بسبب محاولاتها التحقيق مع سلامة ومسؤولين لبنانيين كبار آخرين.
وتقول زينة واكيم، المحامية الدولية التي رفعت مؤسستها “المساءلة الآن” شكاوى ضد سلامة ومصارف في سويسرا وفرنسا والمملكة المتحدة: “منذ البداية، فهمنا ذلك.. يجب أن تأتي العدالة من الخارج للهروب من قانون الصمت في لبنان” .
بالنسبة لواكيم وآخرين، كل الآمال الآن على أوروبا، فقد قالت منظمة شيربا الفرنسية غير الحكومية لمكافحة الفساد، وهي طرف في القضية في فرنسا، إنها تتوقع المضي قدمًا في المحاكمة في سنة 2024، سواء حضر سلامة أم لا.
وتحقق فرنسا مع محافظ بنكها المركزي السابق كريستيان نوير حول ما يزيد على عشرات الآلاف من أتعاب الاستشارات التي دفعها مصرف لبنان، وقال نوير إنه رد على استفسارات السلطات الفرنسية بشأن رسوم الاستشارات المعنية ونفى التصرف بشكل غير قانوني.
ربما تكون الشبكة الدولية في طريقها للتفكك، لكن في الداخل، يُزعم أن محافظ البنك المركزي قد قام بحماية نفسه.
وحققت الهيئة التنظيمية المالية السويسرية “فينما” مع 12 مقرضًا لعلاقاتهم مع سلامة، وكذلك حول تحويل سلامة لسندات الخزانة البالغ قيمتها 153 مليون دولار، والتي أبلغ البنك المعني إلى المدعي العام السويسري بأنها تثير علامات الاستفهام.
وتم استدراج نادي نجل سلامة، وهو مواطن بريطاني، إلى التحقيق؛ حيث يزعم المدعون الألمان أنه قام بتحويل “أموال من البنك المركزي اللبناني” إلى عمليات استحواذ عقاري، وبالتالي إخفاء تلك الأموال “داخل الدائرة الاقتصادية القانونية لألمانيا”، كما كتب قاض في ميونيخ في أمر مصادرة أصول عام 2022.
ولدى سؤاله للتعليق على ذلك، قال نادي إنه لم يخضع أبدًا لأي لائحة اتهام بموجب أي سلطة قضائية، وقال إنه ليس لديه علم باستخدام أي أموال عامة في عمليات استحواذ في ألمانيا.
وقد أعطى التدقيق الجنائي للمحققين خيوطًا جديدة أيضًا؛ حيث كشفوا عن 111.3 مليون دولار أخرى من “العمولات غير المشروعة” التي دفعها مصرف لبنان بين سنتي 2015 و2020، بعد انتهاء مخطط فورِّي، ويشتبه مصدر قريب من التحقيقات في أن فورِّي “ليس سوى غيض من فيض”.
في 10 آب/ أغسطس الماضي، فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا عقوبات على سلامة لانخراطه “في مجموعة متنوعة من مخططات الإثراء الذاتي غير القانونية بمساعدة أفراد الأسرة المقربين وشركائه”. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على رجا ونادي والحويك وكوساكوفا.
ربما تكون الشبكة الدولية في طريقها للتفكك، لكن في الداخل، يُزعم أن محافظ البنك المركزي قد قام بحماية نفسه، بعد أن ترك مصرف لبنان “وبحوزته بعض الأسرار”، كما يقول السياسي البارز، والتي أصبح معلومًا أنه وزعها على أقراص ذاكرة خارج البلاد تحسبًا “لحدوث أي شيء سيء له”.
ثم عادت الكثير من هذه الأموال إلى الخارج بعد ذلك إلى الشركات والحسابات الخارجية وأدوات الاستثمار التي كان رياض سلامة هو المستفيد الاقتصادي منها؛ إما مباشرة من حسابات فورِّي أو عن طريق شقيقه رجاء.
وانتهى الأمر بالأموال في حسابات مصرفية في لبنان وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وقبرص وسويسرا وليختنشتاين ولوكسمبورغ وموناكو وسنغافورة والمملكة المتحدة وجيرسي والولايات المتحدة، وكتب قاضي التحقيق الفرنسي بوريسي: “إن هذه العمليات جعلت من الممكن إخفاء مصدر الأموال المختلسة”.
ويقول المحققون إن الأموال المرتبطة بشركة فورِّي استخدمت لشراء عقارات في باريس ونيويورك، وفي المملكة المتحدة وألمانيا وسويسرا وبلجيكا.
تم تجميد معظم الحسابات العقارية والحسابات المصرفية المرتبطة بسلامة في أوروبا في عام 2022 كجزء من التحقيق المشترك الذي قادته فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، وأعلنت وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال العدالة الجنائية عن مصادرة نحو 120 مليون يورو من الأصول، بما في ذلك الحسابات المصرفية والعقارات، كما صادرت السلطات الأميركية عقارين في نيويورك وحسابات مصرفية مرتبطة بهما في 10 آب/ أغسطس.
يبحث المحققون الأوروبيون أيضًا في العديد من أفراد الأسرة والمقربين الذين يزعمون أنهم ساعدوا رياض سلامة في مخططه للاحتيال على مصرف لبنان.
وركز المحققون الفرنسيون على آنا كوساكوفا المقيمة في باريس، الصديقة الأوكرانية السابقة لسلامة والتي أنجب منها ابنة في سنة 2005، وكذلك ماريان حويك، مساعدة سلامة في مصرف لبنان؛ حيث وضع المدعون الفرنسيون كلتا المرأتين تحت “تحقيق رسمي” بشأن التآمر الإجرامي واتهامات غسل الأموال المنظمة، مع توجيه تهمة الاحتيال الضريبي المشددة إلى كوساكوفا.
وتُتهم كوساكوفا بالمساعدة في هندسة مخطط لتأجير مكاتب للبنك المركزي اللبناني في واحد من أغلى شوارع باريس بسعر أعلى بكثير من سعر السوق، مع ما يقرب من 5 ملايين يورو تذهب إلى جيبها وجيب سلامة، ويقول المحققون إنها تلقت أيضًا أكثر من 1.5 مليون دولار مباشرة من حسابات فورِّي “بدون مبرر اقتصادي”.
وقالت محامية كوساكوفا لصحيفة فاينانشال تايمز: “إنها تطعن في جميع الحقائق التي وجهت لها في لائحة الاتهام من قبل السلطات الفرنسية”.
وتتهم ماريان الحويك ـ التي عُينت كمتدربة في مصرف لبنان في 2005، وسرعان ما صعدها سلامة لتصبح رئيسة لمكتبه التنفيذي ـ بالمساعدة والتحريض على غسيل الأموال وتلقي ما لا يقل عن 5 ملايين يورو من الأموال المختلسة من فورِّي، فيما قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها ساعدت في غسيل “مئات الملايين” الأخرى.
Financial times