/ جاسم عجاقة /
مما لا شك فيه أن الإنفتاح على العالم بكل أبعاده التجارية والمالية والبحثية والثقافية، هو عنصر أساسي من عناصر التنمية البشرية. وبالنظر إلى شروط صندوق النقد الدولي المطلوبة من لبنان ضمن أي إتفاق على برنامج مساعدة مالية، نرى أن هذه الشروط يُمكن وضعها ضمن ثلاث فئات:
الإنفتاح التجاري والمالي على العالم.
تحرير سعر صرف الفائدة وإستطرادًا سعر صرف الليرة اللبنانية.
إنسحاب الحكومة من المجال الإقتصادي، أي بمعنى آخر الخصخصة.
وبالتالي، نرى أن الإنفتاح التجاري والمالي هو الشرط الأول كما يظهر أعلاه، لأنه مطلوب من قبل المؤسسات الدولية، وله حيثية في النظرية الإقتصادية، إذ أنه يرفع من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي. وهو أمر مُحبّذ من الأسواق، إلا أن وجود الفساد في اللعبة يجعل من الإنفتاح كارثة على الاقتصاد وعلى البشر.
علاقة الفساد بالإستيراد في لبنان هي علاقة وطيدة، تبدأ من التلاعب بالمستندات الجمركية، مرورًا بالتلاعب بالبضائع… وصولًا إلى تهريبها من دون أن تمر على الجمارك، وهي عملية تتمّ أحيانًا بتواطؤ فاضح من قبل المعنيين. منذ فترة طويلة والرسوم الجمركية مُنخفضة في لبنان (أقلّه منذ العام 2004)، وبالتالي كان التلاعب بالدرجة الأولى يتمّ على قيمة السلع والبضائع، حيث يتمّ تخفيض قيمتها بناءً على فواتير مُقدّمة من قبل التاجر لا تعكس بالضرورة القيمة الحقيقية لهذه السلع والبضائع. ثم أصبح التلاعب بنوعية البضائع، حيث تُسجّل البضائع في خانات لا تنتمي إليها بالضرورة بحسب التصنيف العالمي (HS).
ومن ثمّ أتى التهريب الجمركي ليحتل المرتبة الأولى، خصوصًا مع رفع الدولار الجمّركي إلى مستويات سعر منصة صيرفة. وبحسب معلومات مستقاة من بعض العاملين على الأرض، فإن نسبة التهريب إرتفعت من 10% إلى أكثر من 80% في بعض القطاعات التجارية!
الجمارك ترى في حصيلة الأرقام إرتفاعًا بقيمة المداخيل نسبة إلى المرحلة السابقة (أي قبل رفع الرسم الجمركي)، إلا أن الحقيقة هي أن هناك تراجعا في قيمة المداخيل، إذا قررنا إحتسابها بالدولار الأميركي، وهو يعني إنخفاضا في حجم السلع التي تمرّ عبر الجمارك. بالطبع هذا المقال لا يهدف إلى الهجوم على الجمارك أو إتهامها، حتى ولو أن بعض العناصر قد تكون متواطئة، إلا أن الهدف الأساسي منه هو تسليط الضوء على ما يحصل من جرائم مالية بحق المال العام!
المضاربة بين التجار الشرفاء الذي يمرّون عبر الجمارك، والتجار الذي يلجأون لعصابات تهريب مُنظّمة تُدخل البضائع إلى السوق اللبناني من دون مرورها بالجمارك، تميل لصالح التهريب مع أسعار مُنخفضة تقضي على التجار الشرفاء. على هذا الصعيد، إلتقينا بالعديد من هؤلاء وسألناهم عما يحدث في السوق، وصرّحوا لنا أن الوضع ومنذ رفع الرسوم الجمركية وزيادة التهريب، أصبح تعيسًا مع تراجع المبيعات بشكلٍ ملحوظ، وهو ما يعني الإقفال على المدى المتوسط إلى البعيد.
واللافت في الأمر، هو غياب الأرقام الرسمية لمعرفة المداخيل الحقيقية التي تدخل خزينة الدولة. فلا وزارة المال تصرّح على بوابتها الإلكترونية (منذ نهاية 2021) على الأداء المالي للخزينة العام، ولا الجمارك تنشر أرقام الإستيراد (منذ نهاية 2022). وبالتالي لا يُمكن الحكم على حجم التهريب من الأرقام، بل هناك مُعطيات من مصادر أخرى على مثال بعض المواقع المُختصة التي تُعطينا بعض الأرقام.
فبحسب موقع take-profit، بلغ حجم الإستيراد في شهر كانون الثاني من هذا العام 1251 مليون دولار أميركي، مُقارنة بـ 1580 مليون دولار في شهر كانون الأول 2022، و1493 مليون دولار في شهر تشرين الثاني 2022، و1269 مليون دولار أميركي في شهر تشرين الأول 2022 – أي قبل رفع الدولار الجمركي. وبالتالي، وفي حال قامت وزارة المال بنشر أرقامها المالية على موقعها الإلكتروني، يُمكن معرفة قيمة التهرب الجمركي الحقيقي.
على كل الأحوال، الخسائر المالية على خزينة الدولة، في حال ثبت بالأرقام حجم التهريب الجمركي، هائل! لذا ومن هذا المُنطلق، يتوجّب على حكومة تصريف الاعمال وضع هذا الموضوع على جدول أعمالها، وأخذ الإجراءات المناسبة التي تتضمّن الخطوات التالية (على سبيل الذكر لا الحصر):
– أولًا: إرسال كتاب إلى مديرية الجمارك والطلب منها التشدد في رقابة حركة السلع والبضائع وملاحقة المخالفين.
– ثانيًا: الطلب من القضاء فتح تحقيقات على هذا الصعيد وملاحقة كل من يثبت تورطه في عمليات تهريب جمركي.
– ثالثًا: وضع قاعدة بيانات مُشتركة بين الجمارك ووزارة المال ووزارة الاقتصاد والتجارة، بهدف رصد وملاحقة التجار المخالفين.
– رابعًا: الطلب إلى الأجهزة الأمنية رصد عمليات التهريب وتوقيف المهرّبين وتحويلهم إلى القضاء.
– خامسًا: الطلب من وزارة الاقتصاد والتجارة التشدّد في مراقبة مخازن التجّار، والتأكد من عمليات دفع الرسوم الجمركية بمؤازرة الأجهزة الأمنية.
– سادسًا: الطلب إلى مصرف لبنان إصدار تعميم يمنع على المصارف القيام بأي تحاويل للتجار، الذين لا يُقدمون للمصارف المستندات التي تُثبت دفعهم الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة عن العملية السابقة.
علم الاقتصاد واضح على هذا الصعيد، الدولة التي لا تملك سيادة مالية على أراضيها لا يُمكنها تطوير إقتصادها. لا بل أكثر من ذلك، كل آليات السوق تُضرب، وهناك تركيز للثروات لدى فئة مُعيّنة من الشعب عادة ما تكون لها نفوذ يسمح لها بتخطّي القوانين.
وبالنظر إلى مؤشر البنك الدولي للحوكمة (بالتحديد الفساد)، نرى أن مؤشّر “السيطرة على الفساد” يتهاوى منذ العام 1998، ووصل إلى أدّنى مستوى له بعد “ثورة 17 تشرين” الأول 2019. وهو ما يعني أن هذا الفساد يتغلّغل في كل مؤسسات ومرافق الدولة اللبنانية، ويؤثّر حكمًا على مداخيل الخزينة العامة.
الديار