لم تكن تونس على مر التاريخ بالنسبة لليبيين، مجرد رقعة أرض صغيرة مجاورة. كانت امتدادا واسعا يلجأون إليها حين تشتد عليهم الخطوب والمحن، وفيها يجدون دائما الغوث والأمن.
حدث ذلك أثناء كوارث كبرى على مر الزمن، بما في ذلك اثناء تفشي الطاعون في طرابلس عام 1786، وكانت تونس هي الملجأ والحضن الدافئ الذي تعود على استقبال الهاربين من الموت بكرم وسخاء وضيافة تواصل بعضها لأجيال ليس فقط لأفراد بل ولقبائل كاملة.
لم تفتح تونس وشعبها ذراعيها لجيرانها الليبيين فقط بعد محنة الغزو الإيطالي لبلادهم في عام 1911، حين لجأت إليها أعداد كبيرة من سكان طرابلس، بل وهب العشرات من سكان تونس إلى المشاركة في حركة الجهاد الليبي في غرب البلاد ضد الاستعمار الإيطالي، ولم يبخلوا حتى بدمائهم وأرواحهم في غوث جيرانهم.
كانت تونس في ذلك الوقت ترزح تحت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1881، يقاسي أهلها الفقر والعوز ووطأة المستعمر الثقيلة وحملات القمع ضد ثورات الأهالي التي لم تخمد وخاصة في الجنوب التونسي. ومع كل ذلك وجد أهالي المنطقة في أنفسهم القوة والقدرة ومتسعا لاستقبال واحتضان جيرانهم الفارين من رصاص الإيطاليين الغزاة وقمعهم.
لم يتوقف العون عند هذا الحد، بل وتحمس العشرات من المواطنين التونسيين لحركة الجهاد التي انطلقت في القطر الطرابلسي المجاور ضد المستعمرين الإيطاليين، فشدوا رحالهم واجتازوا الحدود وانضموا إلى إخوانهم في مقارعة غزاة بلادهم.
من بين هؤلاء، واحد حمل من دون تردد روحه على كفه وقاتل الفرنسيين والإيطاليين حتى النهاية. ومع ذلك بقي في الظل لا يذكر اسمه إلا لماما وأحيانا باسم أطلقه عليه المستمرون وهو “شيخ الفلاقة”، إنه محمد بن صالح الدغباجي، المقاتل الصلب الذي أقض مضجع الفرنسيين والإيطاليين الذين طاردوه في كل مكان عدة سنوات.
من يكون الدغباجي؟
ولد محمد الدغباجي في أسرة تزاول الفلاحة عام 1885 في وادي الزيتون وهي منطقة تبعد عن الحامة بنحو 30 كيلو مترا، وتقع بجنوب شرق البلاد، وهي الآن ضمن ولاية قابس.
أدى الدغباجي الخدمة العسكرية الإجبارية تحت وصاية المستعمر الفرنسي بين عامي 1907 و1910، واضطر في عام 1915 إلى الانضمام إلى الجيش بدافع العوز والبطالة، وأرسل في نفس العام 1915 مع قوة إلى مناطق البلاد الجنوبية بعد أن هاجم مقاتلون ليبيون مراكز فرنسية حدودية.
لم يرض محمد الدغباجي أن يكون حارسا لمستعمري بلاده، ففر من الخدمة العسكرية مع أربعة من رفاقه، وشارك مع آخرين في هجمات على قوات الدرك الفرنسية، وتسنى له في تلك الفترة قيادة معركتين في مسقط رأسه الحامة وواحدة في صفاقس.
مضى الدغباجي في طريقه النضالي تصاعديا وقاد انتفاضة عسكرية شهيرة في جنوب تونس في 2 يناير عام 1920 قتل فيها عدد من الجنود الفرنسيين، فأصدرت محكمة عسكرية غيابيا حكما بالإعدام ضده في 27 أبريل 1921.
لجأ هذا المناضل التونسي المجهول في المنطقة العربية، إلى ليبيا، وانضم إلى خليفة بن عسكر، أحد القادة الليبية في منطقة نالوت القريبة من الحدود بغرب البلاد ضد الاستعمار الإيطالي.
الدغباجي أظهر خلال عمليات الهجوم عبر الحدود على القوات الفرنسية مهارة حربية عالية فيما يعرف بحرب العصابات، علاوة على شجاعته الاستثنائية ومهارته في الرماية.
لم يكن محمد بن صالح الدغباجي مقاتلا ضد استعمارين فحسب، بل كان صاحب رؤية نضالية واسعة، حيث رد في 16 فبراير 1920 في مراسلة مع أحد أعوان الاستعمار الفرنسي ويدعى عماربن عبد الله بن سعيد حاول الإيقاع به، قائلا: “حركتنا تمتدّ من فاس إلى مصراتة وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا”.
أمثال الدغباجي لا يموتون في أسرتهم حتف أنوفهم! بنهاية المطاف تمكن الإيطاليون من أسره، وقاموا بتسليمه إلى الفرنسيين.
نُقل إلى بلدته ونفذ فيه حكم الإعدام رميا بالرصاص في 1 مارس عام 1924 بساحة سوق الحامة أمام أهله وأبناء قبيلته.
حتى في تلك اللحظات لم يفقد رباطة جأشه، رفض الدغباجي أن تعصب عينيه أثناء تنفيذ حكم الإعدام وفضل أن يواجه الموت بعينين مفتوحتين.
المصدر: RT