في حقيبة منسية ومجهزة أساسا لرحلات استجمام إلى الخارج يجمعون خيباتهم وانكاساراتهم وأحلامهم التي حاولوا عبثاً ترميمها على أرض وطن الأجداد ويسافرون إلى أصقاع الأرض من دون التفكير أو التخطيط لمشروع العودة. إنه واقع وطن ينام شعبه على سعر صرف ليرته المنهارة ويصحو على فراغ رئاسي وشغور الأمل بالوصول إلى بر الأمان.
ثمة من يقول إن موجة الهجرة التي يشهدها لبنان منذ اندلاع الثورة في 17 تشرين الأول 2019 والتي تفاقمت بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 ليست جديدة وهي تصنف بالموجة الثالثة بعد موجتين كبيرتين من الهجرة، الأولى أواخر القرن التاسع عشر، امتدادًا حتى فترة الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916)، حيث يُقدر أن 330 ألف شخص هاجروا من جبل لبنان آنذاك.
أما الموجة الكبيرة الثانية فقد كانت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990)، وتقدر الدراسة أعداد المهاجرين في تلك الموجة بحوالى 990 ألف شخص. لكن شتان ما بين الظروف التي أدت إلى هجرة اللبنانيين آنذاك والأسباب اليوم. ومن عايش فترة الحرب الأهلية ، خلال سبعينيات القرن الماضي، يشهد أن الضائقة الاقتصادية التي كانت تعم البلاد لا تقارن بواقع الأزمة اليوم التي حددها إختصاصيون بأنها أكبر أزمة مالية يشهدها لبنان عبر تاريخه منذ مجاعة الحرب العالمية الأولى. لكن في علم الأرقام والإحصاءات المعطيات تختلف.
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يوضح عبر “المركزية” أن عدد المسافرين والمهاجرين من لبنان وصل حتى نهاية شهر تشرين الأول 2022 إلى 55 ألفا و500 شخص في حين سجلت إحصاءات العام 2021 خروج 80 ألفا مقارنة بـ17 ألفا و721 شخصا في العام 2020. كما تبين أن عدد اللبنانيين الذين هاجروا وسافروا من لبنان خلال الأعوام 2018- 2021 قد وصل إلى 195,433 لبنانيا.
أرقام الشهر الأخير من سنة 2022 لن تتجاوز الخط الاحمر ولن تقارب حتى أرقام العام الماضي يقول شمس الدين “على العكس فكل المؤشرات تدل على تراجع نسبة الهجرة في السفر إلى الخارج بسبب الأزمة الإقتصادية في العالم على خلفية تداعيات الحرب الأوكرانية وانعدام فرص العمل في أوروبا”.
قد يصح القول “مصائب قوم عند قوم فوائد” لكن الأكيد أن التراجع لا يعود إلى انعدام الرغبة “فالرغبة في مغادرة البلاد موجودة بسبب انعدام فرص العمل لا سيما لدى الطلاب المتخرجين حديثا من الجامعات. لكن المفارقة أن هجرة الشباب المتعلم والإختصاصيين تحد من نسبة البطالة في لبنان وبقاءهم يعني ارتفاع معدلاتها”.
الخطورة في موجة الهجرة الثالثة أن حوالى 77 في المئة يفكرون في الهجرة أو يسعون إليها بحسب دراسة مرصد الأزمة التابع للجامعة الأميركية وهي تتعدى أي نسبة أخرى ضمن فئة الشباب العربي وتحديدا في الدول التي تشهد صراعات مسلحة. وهذا يعود إلى ذهنية اللبناني وتاريخ شعبه المطبوع بالهجرة منذ الحرب العالمية الأولى. أما الخطورة الثانية فتتمثل في ارتفاع نسبة هجرة الإختصاصيين العاملين في القطاعات الطبية وكذلك الحال في قطاع التعليم والمهندسين وآخر الموجات هجرة المحامين والقضاة.
من الجو إلى البحر حيث شهد لبنان موجات هجرة غير شرعية انتهت في غالبيتها بكوارث مع غرق المراكب بمن فيها من أطفال وشيوخ وشباب. وبحسب أرقام الأمم المتحدة فقد وصل عدد الساعين إلى مغادرة لبنان بحرا وبطريقة غير شرعية إلى حوالى 1600 شخص أي بارتفاع قدره 300 شخص عامي 2019 و2021 فيما يشعر نحو 41 في المئة من الشباب، أن فرصتهم الوحيدة هي البحث عن فرص في الخارج.
في السياق يشير شمس الدين إلى أن ارتفاع معدل السفر والهجرة لدى الفئات العمرية الشابة وحملة الشهادات والإختصاصيين لا يشكل خطرا على المجتمع اللبناني وتركيبته لأنه يعالج في المقابل مشكلة البطالة في لبنان التي وصلت نسبتها إلى 38 في المئة بحسب دراسة لـ”الدولية للمعلومات” أما على المدى البعيد فهناك حتما خطورة. ويلفت إلى أن تزايد أعداد اللبنانيين المهاجرين والمغادرين، ليس إلا سعياً لتحسين ظروف حياتهم الصعبة، أو للحصول على فرصة عمل أصبحت مستحيلة في وطنهم، وذلك في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية لدى أكثريتهم نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية.
وانطلاقا من تطورات الظروف الإقتصادية عالميا بسبب الحرب في أوكرانيا وعدم وجود أفق واضح للأزمات السياسية والإقتصادية والمالية في لبنان يرفض شمس الدين رسم بيان إحصائي ولو تقديري لأعداد المهاجرين والمسافرين “فإذا ما انتهت الحرب في أوكرانيا وانتعش الإقتصاد العالمي واستعادت أسواق العمل عالميا عافيتها فإن أرقام الهجرة والمسافرين سترتفع وإذا ما توصل النواب اللبنانيون إلى انتخاب رئيس وتم التوقيع مع صندوق النقد الدولي فهذا يعني أن معدل الهجرة سيتراجع أيضا. أما إذا لم يحصل أي منهما فهذا يعني أن الهجرة ستتقلص إلى الخارج وسترتفع نسبتها في لبنان.
إذا، المتغيرات وحدها من سيتحكم باتجاه بوصلة الهجرة الثالثة من لبنان. “لكن ما يمكن تأكيده ان الهجرة الثالثة ضمن الوضع الحالي خطيرة على المدى البعيد، أما على المدى القصير فهي إيجابية لأنها تؤمن فرص عمل للبنانيين في الخارج وتقلص معدل الهجرة في الداخل “يختم شمس الدين.