تستشعر قيادات في “محور المقاومة” توصف عادة بالعارفة أن الضغوط الاقتصادية الآخذة بالتصاعد في الآونة الأخيرة والتي تمارسها واشنطن على سوريا بلغت حداً غير مسبوق منذ اشتعال شرارة الأحداث العنفية في الساحة السورية عام 2011، إذ للمرة الاولى تتحدث المعلومات الواردة عن حجم المعاناة التي يعيشها السوريون في الحيّز الجغرافي الخاضع لسيطرة النظام حيث ثمة من يذهب بعيداً في مخاوفه وهواجسه فيحذر من دنوّ مخاطر تفشّي المجاعة أو ما يماثلها.
بهذه الحدود يبدو الأمر خالياً من عنصر المفاجأة أو الصدمة فالضغوط على هذا البلد ترتفع وتيرتها وتتنوّع لتتخذ يومياً أشكالا أشدّ إيلاماً وأقل رحمة ورأفة. لكن العنصر المستجد الذي تتوقف عنده تلك القيادات وتحسب له الحسابات يتلخص في استنتاج مكثف فحواه أن حدود هذا الضغط المستجد باتت تتعدى الساحة السورية وتتجاوز مسألة محاصرة النظام وشعار إسقاطه لتصل الى حدود ممارسة أقصى الضغوط على كل المنتمين الى “محور المقاومة” بما فيها بطبيعة الحال الساحة اللبنانية.ففي بيروت تعلو أصوات اقتصاديين وخبراء لتعزو السبب الأساس لهذا الارتفاع الصاروخي غير المسبوق لسعر صرف الدولار في أسواق التعامل اللبنانية (يقترب من الخمسين ألفاً) الى أمرين متلازمين الأول “تعطش” السوق السورية الى العملات الصعبة على نحو غير مسبوق من جهة وعمليات التهريب الواسعة النطاق لكميات أضعاف المعتاد من دولارات لبنان الى الأسواق السورية، ما عزز فرضية أن لا سقف يحدّ سعر صرف الدولار في لبنان في المدى المنظور.
واستتباعاً، ما من وسيلة من شأنها كبح جماح هذا الارتفاع المنفلت من أي قيود والمستعصي على أي إجراءات أو تدابير.
في المقابل تتداول أوساط سياسية وإعلامية منذ فترة معلومات مفادها أن كل الذين تواصلوا مع الإدارة الأميركية بهدف سؤالها عن دورها المنتظر لملء الشغور الرئاسي وإعادة تقويم ما اعوج من الوضع اللبناني درءاً لمزيد من الانهيارات على كل المستويات والتي تحمل في طياتها احتمال انحلال الدولة وتلاشيها، عادوا باستنتاج مفاده: لا نضع الوضع اللبناني على طاولات بحثنا واهتمامنا إطلاقاً فلا مرشح عندنا نطلب دعمه أو نجهد لإسناده بغية الوصول الى قصر بعبدا.
وبقطع النظر عن دقة هذا الكلام فإن الجلي أن واشنطن تركت حبل الوضع اللبناني الحالي على غاربه وهي لا تعبأ بتلك التحذيرات التي تأتيها من التداعيات والارتدادات لهذا السلوك اللامبالي مهما كانت النتائج سلبية.وأمام هذا العزوف الاميركي عن التدخل والفعل والمشاركة في فرض توجه معيّن للأمور فإن ثمة قناعة مترسّخة عند كثيرين من قادة الرأي في لبنان جوهرها أن لا حل للأزمات اللبنانية المتناسلة والمتعاظمة، واستطراداً لا تلوح في الأفق أية مؤشرات على إمكان كبح التدهور الذي صار أشبه ما يكون بكرة الثلج.
واقع الربط بين الساحات وعدم الفصل بينها أمر يقر به أولئك السائرون على “خط الممانعة” وأيضاً يعترف به المحسوبون على الخط الأميركي – الغربي وهم يكادون يتقاطعون عند نقطة أنه لا يمكن انتظار بوادر حل أو طلائع تسوية تهبط فجأة من المحل الأرفع على المشهد اللبناني المعقد والمتأزم. ومن هذا المنطلق المنطوي على يأس وقنوط يرى أركان في “محور الممانعة” أن “تجفيف” العملات الصعبة من الأسواق اللبنانية المتقلبة ونقلها تهريباً الى سوريا مهما كانت حقيقة الحجم هو بحدّ ذاته عامل ضغط إضافي على لبنان المنكوب اقتصادياً والمتخبّط مالياً.وبناءً على ذلك ثمة من لم يفاجئه إطلاقاً الكلام الذي أطلقه أخيراً وزير الشؤون الاجتماعية هكتور الحجار ووزراء ومسؤولون آخرون وأشاروا فيه الى أن سفراء أطلقوا أمامهم صرخة الاستنجاد والاستغاثة طلباً للتخفيف عن كاهل لبنان المتعب الأعباء الثقيلة الوطأة للنزوح السوري كان ردّهم صريحاً وحازماً: أن الوضع الآخذ بالتردّي في سوريا لا يساعد إطلاقا في إنفاذ الرغبة اللبنانية العارمة التي ارتفع منسوبها أخيراً وتحوّلت شكوى يومية بالمساعدة على إعادة قسم من هؤلاء النازحين الى بلادهم.
وفي السياق عينه لم يكن مفاجئاً أيضاً أن تظل فارغة تماماً سلة المراهنين على مبادرات حامية ذكر أن باريس والدوحة شرعت بها بمباركة من الرياض بهدف إنضاج طبخة تسوية رئاسية تفضي الى ملء الشغور الذي بدأ قبل نحو شهرين، وتفرض بطريقة أو بأخرى على الداخل اللبناني العاجز عن القيام بما هو مطلوب منه وانتخاب رئيس جديد.
وفي هذا الإطار يقول الخبير في القضايا الاستراتيجية وصراعات المنطقة الأكاديمي طلال عتريسي لـ”النهار”: لا نحتاج الى كثير من البراهين والادلة لنستنتج أن الاميركيين في اشتباكهم الضاري مع الروس ليسوا في وارد تشتيت قواهم وتفكيرهم بغية العمل الجاد لإيجاد حلول أو إنضاج تسويات من شأنها إنهاء صراعات المنطقة الملتهبة أو تبريدها بالحدّ الأدنى.
ويضيف: نحن نلاحظ بوضوح أن الجهود الاميركية تنصبّ الآن حصراً على قضيّة محورية بالنسبة لهم وهي شيطنة روسيا واعتبار حربها في أوكرانيا جريمة تحتاج الى عقاب من نوع استثنائي وربما كان المزيد من أعمال التفكيك لما بقي من الامبراطورية الروسية بعد إلحاق هزيمة عسكرية بها واستنزافها، بدليل أن الحرب في أوكرانيا دخلت شهرها الثامن على التوالي ولم تبد واشنطن أي رغبة في فتح أبواب التفاوض والحلول لإيقاف هذه الحرب التي تدمّر البلدين وتنهك كل أوروبا وربما العالم كله.ويستطرد عتريسي تحت هذا العنوان العريض لواشنطن تندرج عناوين فرعية من نوع تعثر المفاوضات النووية مع إيران بل وعرقلتها، وتصعيد الضغوط الاقتصادية على الساحتين السورية واللبنانية وممارسة المزيد من الضغوط على الشعب الفلسطيني.
ويؤكد أن الأميركيين لا يكتفون بعدم تقديم الحلول بل يمنعون على آخرين التقدم بمبادرات حل وتسوية وهذا ينطبق على الفرنسيين الذين يبدون استعداداً للتقدم بحلول للوضع اللبناني فيردعهم الضغط الاميركي.
ويخلص أن الاميركي يريد نفط إيران وغازها لكنه لا يريد أن يقدم أية تنازلات لها ولحلفائها في المنطقة ومن بينهم سوريا ولبنان. وفي كل الاحوال، تبدو الامور في الساحة اللبنانية متجهة الى مزيد من خلط الاوراق مقروناً بمزيد من الضغوط. واقع الحال هذا يترك الباب مفتوحاً أمام مزيد من الاشتباكات السياسية.
ولكن طرأ أخيراً سؤال ملح وهو: هل تبقى اللعبة تحت السيطرة أم تخرج عن دائرة التحكم في ساعة ما؟