كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
كما «تؤدي كل الطرق إلى روما»، تقود كل فرضيات تغييب الإصلاحات إلى حتمية استعمال إحتياطي الذهب. فدوامة الفساد التي بنتها المنظومة، وحمتها بشبكة مصالح سياسية، مالية وطائفية معقدة، ستوصل في نهاية المطاف إلى خزائن المركزي، مهما تعددت الطرق التي تسلكها. عندها يوضع البلد على «حديدة» صدئة، ويخسر آخر معاقل الصمود في وجه التحديات الداخلية والخارجية الآخذة بالتفاقم.
في الوقت الذي تعيد فيه السياسات النقدية والمالية الدولية الوهج للمعدن الاصفر، لا تقيم السلطة المحلية وزناً لأي إصلاح جدي يحمي الذهب، بوصفه الثروة الحقيقية المتبقية. فبعيداً من آلاف أطنان الليرات «البخسة»، والدولارات «المتبخرة»، لا يزال لبنان يملك نحو 286.3 طناً من الذهب الخالص، بقيمة تصل اليوم إلى حوالى 16.5 مليار دولار. وهو يحتل المرتبة الـ 20 عالمياً في احتياطي الذهب، والثانية عربياً بعد السعودية وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي. لكن مع الاسف كل هذه الثروة هي عند المسؤولين اللبنانيين بمثابة «صابون». فلا فرق بينها وبين أي أصل آخر. وما يهمها هو التمكن من تسييل احتياطي الذهب أو رهنه أو حتى بيعه بعد استنفاد التوظيفات الإلزامية وأموال حقوق السحب الخاصة من أجل إطالة عمر النظام القائم.
شراء سندات التضخم
خطورة السياسة المعتمدة محلياً لا يمكن فهم أبعادها بمعزل عن التطورات العالمية المستجدة، والتي يأتي في مقدمها ما قام به المركزي البريطاني من عمليات شراء لسندات التضخم. وذلك في ظل مخاوف من حدوث عمليات بيع بسعر منخفض للسندات الحكومية، بعدما احجمت الصناديق عن الشراء بخسارة.
سياسة المركزي البريطاني التي يبررها بالخوف على الاستقرار المالي في المملكة، تعيد إلى الأذهان ما حدث في المملكة المتحدة عقب معركة واترلو الشهيرة. ففي واحدة من الروايات عن تحكّم عائلة «روتشيلد» بحركة الاسواق والمال، يزعم أن السير يعقوب وقف أمام بورصة لندن مدعياً أن قيمة الاسهم والسندات ستنهار لوجود أخبار عن خسارة بريطانيا الحرب. فباع ما في حوزته، ولحقه المستثمرون الذين سيلوا محافظهم باسعار زهيدة جداً. إلا أن العائلة التي كانت تعرف سلفاً أن نتيجة الحرب لصالح المملكة، عادت واشترت كل الاسهم والسندات، التي ما لبثت أسعارها أن أخذت بالارتفاع فوراً.
الطلب على الذهب
ما يحدث اليوم لا يمكن فصله بحسب مصدر متابع عن السياق التاريخي في عالم المال والاعمال، وحتى الازمات. فعقب العام 1871 أنشئ النظام المالي العالمي الجديد من قبل دول عظمى تسيطر عليها عائلات مصرفية نافذة. وقد قام هذا النظام بشكل أساسي على تملك كميات كبيرة من الذهب، الذي وضع في الخزنات مقابل تبادل الكوبونات. وكان من نتيجته مثلاً نشوء نظام السفتجة (حوالة صادرة عن دائن، يكلِّف فيها مدينَه دَفع مبلغ معيَّن في تاريخ معيَّن لإِذْن شخص ثالث، أو لإِذن الدَّائن نفسه، أو لإِذن الحامل هذه الحوالة)، وعادة ما تكون الضمانة ذهباً خالصاً. المجتمع الدولي أعاد التأكيد بعد الحرب العالمية الثانية على أهمية ربط العملات بالذهب في مؤتمر «بريتون وودز». فالنقد الورقي لا يعني شيئاً فعلياً إن لم يكن مربوطاً بأصل ثابت وثمين مثل الذهب.
فك الارتباط بين العملات الورقية والذهب في سبعينات القرن المنصرم، عاد مع تفاقم الازمات العالمية وسياسة رفع الفائدة ليثير المخاوف على انهيار الكثير من العملات. حيث تدنى اليورو عن الدولار، وانخفض الاسترليني بنسبة كبيرة… ومثلهما تراجع الكثير من عملات الدول القوية. وبحسب المصدر «عندما نرى بريطانيا في أزمة يجب أخذ الحيطة والحذر، وطرح السؤال عما يتحضر في العالم. وإن كان من الممكن العودة إلى التعامل بالذهب من خلال ربط العملات وتقويمها مرة جديدة بمخزونات وموجودات الدول من الذهب».
ما يدعم هذه النظرية هو الاتجاه النقدي العالمي الجديد، الذي يشجع اعتماد سياستين:
– الاولى، شراء الذهب. حيث فرضت روسيا التعامل معها بالذهب، لكون الاخير وسيلة إيفاء محايدة لا تخضع للعقوبات. وقام المصرف المركزي المصري بشراء 40 طناً من الذهب، مع العلم أن مصر واقعة في أزمة كبيرة. وعمد كل من وتركيا والصين والهند لتعزيز احتياطياتها من الذهب. إذ أظهرت إحصاءات مجلس الذهب العالمي أن معدل شراء للذهب في المصرف المركزي التركي وكذلك الهندي كان الاكبر خلال الشهر الماضي.
الثانية، التشجيع على رفع أسعار الفائدة لمواجة التضخم.
وعليه فان تتبع التطورات السياسية والنقدية في بريطانيا، وما يحصل في روسيا وما يدور في حلفها، ومتابعة حركة المال، تقود جميعها إلى الاستنتاج أن «روسيا تسعى إلى قضم الدولار وجعله عملة غير مهيمنة». وهذا ما يؤثر على قيمة الدولار، وبالتالي على قيمة بقية العملات الورقية، وخصوصاً تلك المرتبطة بالدولار بشكل كبير. الامر الذي سيعزز حضور الذهب أكثر على الساحة النقدية مع احتمال ارتفاع سعره بشكل كبير وتجاوزه الحد الاقصى الذي وصله عقب الغزو الروسي لاوكرانيا، حيث تخطى عتبة 2000 دولار للاونصة الواحدة.
التفريط بالثروات مستمر
بالعودة إلى لبنان يظهر أن السياسة المالية والنقدية تنحو عكس الاتجاه العالمي. فمن جهة تتقصد السياسة النقدية رفع معدلات التضخم، من خلال الاستمرار بطباعة كميات هائلة من الليرات. وهذا ما برز بشكل فاقع من خلال ضخ المركزي نحو 25 ألف مليار ليرة منذ 15 أيلول الفائت ولغاية 15 تشرين الاول الحالي، أي في غضون شهر واحد. وذلك بهدف تعزيز محفظته من العملات الاجنبية بمقدار نصف مليار دولار. الامر الذي يؤدي إلى استمرار ارتفاع الدولار في السوق الموازية ويساعد على تذويب الودائع والديون ولا سيما بالليرة على حد سواء. والدليل تراجع الدين بالليرة اللبنانية من حوالى 67 مليار دولار إلى نحو 2 مليار دولار بسعر صرف اليوم. ومن جهة اخرى تغيب الاصلاحات وتستمر في استنفاد الاصول والاحتياطيات تدريجيا، وصولاً في النهاية إلى حتمية استعمال مخزون الذهب.
في الوقت الذي يشاع فيه أن المصرف المركزي استفاد من فرق ارتفاع أسعار الذهب لطباعة المزيد من الليرات في الفترة السابقة، فان المطلوب اليوم استعمال هذا الفرق لشراء المزيد من الذهب. وإن كان من الصعوبة بمكان تخصيص مبالغ لزيادة احتياطي الذهب في الموازنة، فاقل الايمان الحفاظ على هذا المخزون الاستراتيجي، حتى انقشاع الغيمة السوداء التي تتلبد فوق الاقتصادات الدولية، ويتبين بوضوح الاتجاه النقدي العالمي الجديد.