كتب جورج سرّوع في “الجمهورية”:بعد 30 شهراً من الأخذ والردّ «العلني» و»المكتوم» و»المقنّع» بين أصحاب «الحلّ» و»الربط» من مؤيّد ومعرقل، وكالعادة لدى كل من الأطراف أسبابه الموجبة التي وكالعادة أيضاً لا تمتّ بأي صلة الى المصلحة الوطنية العليا، علماً أن صندوق النقد الدولي في فترة ليست بالبعيدة كان قد أبدى رأياً عشية استعداد مجلس النواب، لمناقشة مشروع القانون المنتظر: أنه «قد لم يعد هناك ضرورة للقانون»، يتمّ تداول مسودة اقتراح قانون (أرسل إلى المجلس النيابي في 24 -3 – 2022) ترمي إلى «وضع ضوابط استثنائية وموقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية». حظيت مسودة القانون حتى الآن باهتمام مهني وجدي بكل موادها، وهذا سيتواصل على امتداد الأيام المقبلة، وسيتلازم مع مجريات ومخرجات مناقشة المسودة في مجلس النواب.من هذا المنطلق، قد يكون مفيداً مقاربة مسودة اقتراح القانون من الأهداف التي وردت في مطلعها، والتي حُددت كالآتي:«عانى لبنان ولا يزال من فقدان الثقة بالاستثمار فيه ما أدى إلى حركة تحويلات مصرفية هائلة إلى الخارج، وهو ما يُعرف أيضاً بهروب رؤوس الأموال إلى الخارج. من الضروري احتواء حركة التهافت للتخلّص من العملة الوطنية والأصول المحلية، من خلال الحد من التضخم والحد من ردة الفعل المفرطة للمستثمرين في بيع الأصول اللبنانية».وعليه، إن لبنان لم يعانِ خلال تاريخه الحديث، وعلى رغم الأحداث على اختلافها التي خَبرها من فقدان للثقة بالعمق والاتساع، كما هو عليه اليوم، وذلك لأنّ قطاعه الخاص كان مركز الثقة ومصدر تعزيزها، والذي حُمّل ثقل القطاع العام وأكلاف هدره وفساده المتمادي. وفقدان الثقة وما وصلت إليه اليوم من انعدام الوزن هو من مسؤولية القطاع العام. وعليه، هو المسؤول الأول والأخير عن استعادة هذه الثقة بالأداء المُحَوكم جيداً بكل مكوّناته وشفافية وفعالية سياسات وقواعد ونظم محاسبته.وأسأل بلاغياً، أين نحن من كل ذلك اليوم؟ وهل هناك ما يبشّر بالخير في هذا المجال؟ بربط التحويلات «المفرطة» إلى الخارج حصراً بفقدان الثقة على أهميته ليس دقيقاً كفاية. تكاثرت التحويلات عقب الأبلسة المنظمة لمصرف لبنان والمصارف وانكشاف الأخيرة على نقص كبير في السيولة، ما أوصل إلى الانتقاص المتمادي والمتصاعد في حقوق المودعين.أما بالنسبة الى ما يخصّ «التهافت للتخلّص من العملة الوطنية والأصول المحلية من خلال الحد من التضخم ومن ردة فعل المستثمرين في بيع الأصول اللبنانية»، أقول: إن «حشر» التضخم والناتج أصلاً من التدهور الحاصل بالعملة، والذي يبدو إلى الآن عصيّاً عن الضبط، أمر مبالغ فيه. فالناس باعت وتبيع لتأكل وتتطبّب وتتداوى… أما بيع الأصول العقارية في لبنان من قبل بعض المستثمرين العرب وغير العرب في ظل الحالة اللبنانية المتعددة الجوانب السلبية، فهو أمر لا يجب استهجانه أو استبعاده. أما إذا كان المقصود بالأصول اللبنانية أي سندات الدين السيادية التي تخلّف القطاع العام عن دفعها، وتداعياتها العميقة على إصدارات دين المصارف من جهة وعلى الحالة المصرفية المتأزمة ذاتياً من جهة أخرى، والأهم على تصنيف لبنان السيادي بالتخلّف الانتقائي. ولا يبقى على المستثمر إلا تحديد خسارته بأقل ضرر ممكن، بالنسبة إلى الحالة اللبنانية ليس بالمتناول الحاضر والجاهز. وهذا أمر في رأيي لا علاقة له بالتضخم.كما يهدف القانون إلى «المساهمة في إعادة الاستقرار المالي وقدرة المصارف على الاستمرار، وهما يشكلان شرطين أساسيين لاستئناف العمليات المالية. وبالتالي، فإنه يهدف إلى إدخال ضوابط على عمليات التحويل إلى العملات الأجنبية في شكل شفاف لمنع مزيد من تدهور سعر الصرف حماية لاحتياطي المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، كما ولاستعادة السيولة في القطاع المصرفي ولحماية المودعين فيه».إن هذه الأهداف المتكاملة، إذا سلّمنا جدلاً أنها ليست تمنيات أو نيات حسنة فقط بل طموح يَصبو أو «يحنّ» إليه صنّاع مشروع القانون، انّ هذا الطموح على «شرعيته» يتعدى حدود القانون في غياب إعادة هيكلة جدية للمصارف وذات معنى، تحدد بشفافية مصير الودائع ومتى وكيف وكم سيتم وصول المودعين إلى مدخراتهم، وليس فقط وليس من العدل ومن غير المقبول السماح لهم بسحب ما لا يزيد على ألف دولار أميركي للفرد شهرياً بالعملة الوطنية أو بالعملة الأجنبية، وفق ما تحدده اللجنة وعلى مدى خمس سنوات، يعود إلى مجلس الوزراء تقصير هذه المدة أو إطالتها بناء على اقتراح «اللجنة». و»أي مودع يخالف الأحكام الخاصة المتعلقة بسقوف السحوبات المقررة يتعرض لغرامة لا تتعدى 10 أضعاف حدود السحب ولا تقل عن خمسة أضعاف الحدود المنوّه عنها». «كيف بَدّو يخالِف هالمغلوب على أمره من دون ما يخالف القانون؟».أما بالنسبة الى ما يتعلق بحماية المودعين. فصراحة، وبالنظر إلى ما سبق، يستحضرني قولان: الأول إقرأ تفرح جرّب تحزن، والثاني أسمع كلامك يعجبني أشوف أمرك أتعجّب. وأكتفي بهذا المقدار في هذا المجال.أما «استعادة السيولة إلى المصارف»، فيحق لنا السؤال من أين وكيف؟ فهل تكون في زيادة رأس المال نقداً من مساهمين حاليين وجدد، أم من الاحتياطي الإلزامي، أم من الإثنين معاً؟ لا أريد استباق الأمور علينا الانتظار لكي نرى.أما فيما يتعلق بـ»إدخال ضوابط على عمليات تحويل العملات الأجنبية لمنع مزيد من تدهور العملة وحماية الاحتياطي من العملات الأجنبية في المصرف المركزي»، أقول إن إدخال ضوابط على عمليات تحويل العملات الأجنبية غير كاف لـ»منع المزيد من تدهور العملة»، إذ أن هذا الأمر يلزمه في المقام الاول استعادة المصرف المركزي دوره في إدارة السياسة النقدية وفقاً لاستراتيجية واضحة تدعمها موارد نقدية مجزية. وأسأل: «هل منع المزيد من التدهور في العملة الحفاظ على مستواها الحالي»، هو المستوى الأجدى للانطلاق منه لإدارة السياسة النقدية والتضخم ونمو الاقتصاد وتنميته وكذلك الأمان الاجتماعي والمعيشي؟.وكذلك نسأل بلاغياً أين للمصرف المركزي احتياطي عملات صاف لحمايته، أم المقصود في هذا المجال الاحتياطي الإلزامي؟ يبقى في هذا السياق أن المشروع المقترح عهد بإدارة القانون بمختلف حيثياته ومقتضياته إلى «لجنة خاصة» مؤلفة من وزيري المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان، ويترأسها رئيس مجلس الوزراء أو وزير يَنتدبه. وهذه اللجنة تتمتع بصلاحيات واسعة تشريعية وتنظيمية بالانتقاء وحق الاستنساب عند اللزوم، وكذلك عُهد بمراقبة حسن تطبيق القانون والعقوبات إلى لجنة الرقابة على المصارف، وأُعطيت اللجنة صلاحيات رقابية وقانونية وإجرائية لزوم تطبيق قانون النقد والتسليف…في المحصّلة يأتي هذا القانون كما ذكرت منذ البداية متأخّراً إلى الآن 30 شهراً وفي ظل أوضاع اقتصاد كلي أداؤه منهار وينهار، واقتصاد جزئي مُثقل ومتعب يلزمه إعادة هيكلة وإعادة تموضع على ثلاثة صعد متلازمة: التحوّل الرقمي، مراجعة سلاسل التوريد، والاستدامة، لبناء قدراته التنافسية واستعادة دوره الإنمائي والتنموي في الاقتصاد الوطني، وهذا دونه تحديات عملية وعملانية وأكلاف تضاعفت بفعل فراغات السلطة التنفيذية وعدم قدرتها على العمل المجدي والإنتاج. وعليه، أرى أن هذا القانون على رغم كلفة بناه التحتية العملانية والعملية المرتفعة جداً، يَعِد بأكثر مما قد يُنتج وخصوصا في غياب خطة تَعاف وإصلاح حقيقية كاملة وشاملة جدية ومجزية، قابلة للتنفيذ الفاعل والفعّال والقادرة على دعم ما تبقى من دعائم القطاع الخاص وقدراته والبناء عليها لرفد الخطة المرجوّة بمحركات النمو والتنمية. وعلى هذا كله أن يتلازم مع مناخ أعمال مستقر ومُستدام على كل المستويات، ومنسجم بالمقدار الكافي مع ذاته ومتوافق مع محيطه العربي وأصدقائه وشركائه الاقتصاديين في المنطقة والعالم، وفي ظل دولة كاملة السيادة في الداخل وعلى حدودها، تسعى بجدية إلى تحقيق حقوقها من مواردها الطبيعية كاملة وغير منقوصة حالياً جنوباً وغرباً وشمالاً ومن المحتمل شرقاً، واستثمار الموارد لما فيه المصلحة العليا للبلد وأهله في حاضرهم وغدهم ومستقبل أجيالهم. إنني أعِي تماماً أنّ من فَسد وأفسد لا يُصلح، ومن هدم لا يعمّر، ومن استباح لا يبيح. ولكن في الوقت نفسه، يبدو مما نراقب ونشهد ونسمع وعلى كل المستويات السياسية والعملية والاكاديمية أن الأحداث الجيوسياسية الحاصلة الآن في العالم وذات البعد الوجودي، تتجه إلى إقامة نظام عالمي جديد، يرتكز على تعزيز الأمن الغذائي واستقلالية الأمن الاقتصادي والمالي والخدماتي الذاتي المُستدام والتشاركي الثابت، ومن المتوقع أن يُضفي اهتماماً خاصاً إيجابياً على الأغلب لدول شرق المتوسط لجهة مخزونها المحتمل من الغاز الطبيعي. مين بيعرف يمكن رياح شرق المتوسط تلفح هالبلد بنسيم عليل في عزّ الصيف!ولكن من الآن إلى حينه، وبالعودة إلى مشروع قانون الكابيتال كنترول، أرى أنّ من شأن هذا المشروع الذي أبقى القديم على قِدمه مع الزيادة في كلفته التشغيلية التي ذكرناها سابقاً، وفي ضوء ما سبق وفنّدناه في معرض تحليلنا لأهدافه، أخشى أن يزيد من نشاط وفاعلية الاقتصاد النقدي غير المسجّل، والذي يضطلع به عاملون اقتصاديون ECONOMIC OPERATERS فاعلون فرادى ومجموعات في داخل لبنان ومن خارجه، وبمختلف الأنشطة الاقتصادية وبأحجام مؤثرة ويتغذى من الاقتصاد المسجل وبدعم من سوق سوداء للنقد عمقها وعرضها أكثر بكثير مما قد يقدّره البعض ومنظمة ومنتظمة.وفي المختصر، يَكمن تحفّظي المبدئي والمهني على مشروع القانون، كونه يغيّر المشكلة لتناسب الحل، في حين أنّ الصح هو تغيير الحل ليناسب المشكلة.