الصابئة يرون أنهم جذر التوحيد الأول، ويعتبرون أن سيدنا آدم هو النبي الأول لهم.
احتفل الصابئة المندائيون في العراق، اليوم الاثنين، بأول أعيادهم أو ما يعرف بعيد البرونايا أو الخليقة أو البنجة (الأيام الخمسة البيضاء)، حيث تجري خلاله طقوسهم على ضفاف الأنهار وقرب الماء بوصفه ركنا أساسيا في ديانتهم.
وأعلن رئيس الطائفة الشيخ ستار جبار الحلو عن البدء بالطقوس الدينية لعيد البرونايا، والذي سيشهد إجراء المراسيم الدينية المختلفة، مع توافد عائلات الصابئة إلى الأرض المخصصة للتعميد والتي تكون عادة على ضفاف النهر، ويتم تجهيزها قبل موعد قدوم العيد السنوي الأبرز.
يطلق عامة الناس ومنهم المندائيون على البرونايا (البنجة) وهي كلمة فارسية، تعني 5 إشارة إلى الأيام الخمسة التي تستمر خلالها طقوس البرونايا، وتمثل في المنظور المندائي يوما واحدا متصلا لا يمكن التفريق فيه بين الليل والنهار.
وهذا العيد هو الأول من أعياد الصابئة الأربعة الأساسية طوال السنة المندائية، وهي البرونايا (عيد الخليقة) والدهفة ديمانة (يوم التعميد الذهبي) والدهفة ربه (العيد الكبير) والدهفة حنينا (عيد الازدهار)”.
طقوس المندائية
ويعد عيد البرونايا أو الخليقة استذكارا لتجلي صفات الخالق، وفيه انبثقت الحياة وجرت الأنهار على الأرض، وتعتبر أيامه بيضاء لا يشطرها ليل، تؤدى فيها الطقوس المندائية ومنها (الصباغة)، أي صباغة الحي العظيم في المياه الجارية وطلب غفران الخطايا وذكر الموتى، كما يقول وكيل رئيس الطائفة المندائية في العراق والعالم، الترميذا نظام كريدي.
ويضيف الترميذا (وهو لقب ديني مندائي) للجزيرة نت أن “المندائيين يرتدون خلال أدائهم لطقوس البرونايا ملابس بيضاء مصنوعة من القطن حصرا، ويلف وسط الجسد بما يعرف “الهميانا” وهو حزام مصنوع من الصوف بطريقة يدوية خاصة، بالإضافة إلى العمامة والسروال. وكل جزء من الملابس التي حافظ على ارتدائها المندائيون وتوارثوها من أسلافهم الأولين والسلالات السابقة، له رمزية وقدسية في الدين الصابئي المندائي”، مشيرا إلى أن ارتداء الثياب البيضاء أثناء الطقوس تيمنا بثياب النبي يحيى -عليه السلام- وهي تمثل النور والضياء.
ويقول الترميذا كريدي إن أكليل الآس يستخدم في الصباغة، ويشد أولا في الخنصر الأيمن ويوضع أثناء الطقوس على الجبين، ويمثل إضاءة لنفس المندائي خلال عروجها إلى العالم الآخر، وكما يعتبر الزيتون من الأشجار المقدسة لدى المندائيين حيث يحمل رجال الدين عصا من شجرة الزيتون تسمى (مركنة) لتأدية الطقوس”.
ويتبع المندائيون كتاب “كنزا ربا” أو الكنز الكبير، والذي يحوي صحف آدم الأولى وتعاليمه باللغة الآرامية الشرقية التي تعتبر لغة الصابئة، ويحوي الكتاب جزأين، الأول خاص بالأمور الدنيوية من وصايا وحكم ومفاهيم، والجزء الثاني خاص بالنفس بعد وفاتها ورحلتها من الجسد الفاني إلى أصلها، وهو عالم النور.
ويطلق رجال الدين المندائيون لحاهم والسبب كما يعزوه الترميذا كريدي أنه ورد في الديانة المندائية عدم المساس باللحى وشعر الرأس، بسبب الإيمان الكامل بأن النفس موجودة في الرأس ولذا وجب على المندائي تقديس مكان وجود نفس الحي العظيم. واقتصر إطلاق اللحى والشوارب وشعر الرأس -لأسباب اجتماعية- على رجال الدين.
وتعد الطائفة المندائية أو الصابئية من أقدم الأديان في العراق، حيث تمتد بجذورها لأكثر من ألفي عام داخل بلاد الرافدين، وكلمة الصابئة مشتقة من “صبا” بمعنى انغمس أو غطس، فيما تفسر المندائي أو “مندا” بالمعرفة، فيطلق عليهم اسم العارفين بدين الحق أو المتعمدين، وبسبب قدم تاريخهم وتعرضهم لنكبات عديدة على امتداد المراحل الزمنية لا يملك المندائيون تاريخا مدونا للحديث عن ماضيهم، حيث تم إتلاف وحرق مدوناتهم بمرور السنين بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له.
قِدَم الديانة المندائية وتجذرها في عهود سحيقة، تركت آثارا يشار لها بالبنان تكلم عنها إجمالا الكاتب والباحث المندائي خضر المجراوي، حيث قال إن “المخطوطات المندائية القديمة تشير إلى وجود أكثر من 400 معبد للطائفة، كانت موزعة على عموم العراق وغالبيتها في جنوب البلاد، قبل العهد الساساني في بلاد النهرين، تقلصت بعده إلى 170 معبد بسبب سياسات مختلفة، وكان عددها في عهد الفتوحات الإسلامية وبالتحديد بعد لقاء زعيم الطائفة آنذاك بالقائد المسلم سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) 60 معبدا مندائيا”.
ويشير المجراوي صاحب كتاب العمق التاريخي والديني للصابئة المندائيين والعلاقة مع المجتمع الإسلامي إلى “تأثر الحضارات العراقية القديمة -ومنها السومرية- بالكثير من العادات والتقاليد المندائية وأغلب طقوسهم مأخوذة منها وما زال المندائي يعكس صورا مختلفة لتلك الحضارات، والمحافظة على العديد من معالمها”.
وعن مكان وجود أقدم المعابد المندائية في التاريخ، يقول المجراوي للجزيرة نت، إنها “توجد في منطقة الطيب في محافظة ميسان جنوب العراق، وكانت تسمى قديما وباللغة المندائية والتي هي جزء من اللغة الآرامية القديمة بـ”الطيب ماثا” وتعني أرض الطيب والتي اندثرت معظم مدنها وآثارها”.
ويتبع المندائيون كتاب “كنزا ربا” أو الكنز الكبير، والذي يحوي صحف آدم الأولى وتعاليمه باللغة الآرامية الشرقية التي تعتبر لغة الصابئة، ويحوي الكتاب جزأين، الأول: خاص بالأمور الدنيوية من وصايا وحكم ومفاهيم، والجزء الثاني خاص بالنفس بعد وفاتها ورحلتها من الجسد الفاني إلى أصلها، وهو عالم النور.
أصول المندائيين
ويرى رئيس طائفة الصابئة المندائيين الشيخ ستار جبار الحلو أن الصابئة هم من أقدم الأديان ولكن بسبب كتابة كتبهم المقدسة بالآرامية وعدم ترجمتها انزووا قرب الأهوار والمياه الجارية لحاجتهم للتطهير، مشيرا إلى أنهم يتحملون هذا الأمر بسبب المفاهيم الخاطئة التي كانت تؤخذ بحق الصابئة حتى تمت ترجمة كتبهم المقدسة، فاستطاع بعض المتشككين فهم أننا موحدون لله.
من جهته، يقول المختص بالشؤون المندائية وئام الزهيري إن “الروايات التاريخية تختلف بشأن أصل المندائيين، فبعض المخطوطات المندائية القديمة تشير إلى نزوح بعض المندائيين من فلسطين باتجاه وادي حران ثم إلى جبال ميديا على الحدود العراقية الإيرانية، مشيرا إلى أن هذا الرأي لا يبعد تعدد القوميات التي تعتنق الديانة المندائية، وهناك آراء أخرى تشير إلى أن جنوب العراق ولاسيما منطقة الأهوار والمناطق المحاذية لنهري دجلة والفرات هو موطن المندائيين”.
ويشير الزهيري إلى أن أركان الديانة المندائية وعباداتها خمسة، موضحا أنها تشبه إلى حد كبير أركان الإسلام، وهي التوحيد بالله وحده لا شريك له، والصلاة بـ5 أوقات، والصدقة، والصوم على جزأين: الصوم الكبير طوال أيام السنة عن النميمة والكره وفعل الكبائر والمعاصي، والصوم الصغير لمدة 36 يوما عن تناول اللحوم ومشتقاتها.
أما عن سبب المفاهيم الخاطئة عن الديانة المندائية، يقول الزهيري إن ذلك “يعود إلى انغلاق الديانة وكونها غير تبشيرية ولعدم وجود مدارس دينية خاصة بها، مما فتح الباب على مصراعيه لمفاهيم خاطئة حول الديانة ولكنها ديانة توحيدية تؤمن بالله”.
ويرى الصابئة أنهم جذر التوحيد الأول، ويعتبرون أن سيدنا آدم هو النبي الأول لهم، وبعده ابنه النبي شيت، كما أن للنبي سام فضلا كبيرا على الصابئة بتثبيته كافة الشرائع المندائية الحديثة، ليستطيع من بعده النبي يحيى بن زكريا -وهو آخر أنبياء الصابئة- أن يرسل كافة التعاليم التعميدية.
مهن المندائيين
يمارس المندائيون في العراق عموما مهنا مختلفة أغلبها حرفية مثل النجارة أو صياغة الذهب، لعدة أسباب عزاها بعضهم إلى توارثها من أسلافهم القدماء المنحدرين من حضارات ومدن، وآخرون إلى مناطق تواجد المندائيين حيث المياه ومنها الأهوار، وحاجة الناس إلى أدوات حياتهم، كما يرى بعض ثالث أن اتجاه المندائيين إلى المهن الحرفية لأسباب اجتماعية وتداخل الأديان.
وعن الأسماء التي يطلقها المندائيون على أبنائهم، يقول الترميذا كريدي “يحمل كل مندائي اسمين، أحدهما دنيوي وآخر ديني، يستخرج بحسابات فلكية ورقمية من يوم وساعة الولادة واسم الأم الديني، وتقتصر علاقة المندائي بالأبراج والنجوم بالدلالة فقط لقبلة المندائيين التي تشير للشمال الكوني وليس الأرضي ولا توجد علاقات أخرى عدا دراسة علوم الأفلاك كدراسة علمية”.
يختلف التقويم المندائي عن التقويم الميلادي من حيث ترتيب الأشهر ويتفق مع عددها، وتبدأ السنة المندائية في شهر طابيت ويوافق شهر يوليو/تموز في التقويم الميلادي، ويقع البرونايا في الشهر التاسع المندائي.
وتمارس الطقوس المندائية بوجود راية المندائيين التي يطلق عليها (درفش)، وهي كما يقول الترميذا كريدي “راية النبي يحيى بن زكريا، راية السلام وتكون على شكل متقاطع على هيئة الصليب، تشير إلى الجهات الأربع وتلف عليها قطعة من الجز”.
يمارس أبناء الطائفة في ميسان طقوس البرونايا ويعد يومها الأول خاصا بصباغة رجال الدين وتجديد العهد للحي العظيم ويشهد مشاركات من مدن ومحافظات عراقية أخرى.
يقول الإشكنده وليد المنداوي “إنه قدم من محافظة البصرة لأداء طقوس اليوم الأول من البرونايا، بسبب سفر رجل الدين المندائي هناك مما اضطرني إلى المجيء إلى محافظة ميسان لأداء الطقوس، والاستعانة بأحد رجال الدين للقيام بالطقوس في البصرة، وسنستعين برئيس الطائفة في ميسان الترميذا كريدي لإقامة الطقوس هناك”.
وتؤكد المديرة العامة السابقة لأوقاف الصابئة المندائيين نادية مغامس أن ما يميز الصابئة عن الطوائف الأخرى هو تشبثهم المتين بطقوسهم منذ أكثر من ألفي عام حتى اليوم، ورغم التغير الذي يطرأ على الأديان بفعل الكتب السماوية فإنهم تمركزوا حول طقوس واحدة لم ولن تتغير.
وترى مغامس -وهي السيدة الأولى في تاريخ العراق ممن يتولى منصبا دينيا- أن الكثير يحملون صورا نمطية خاطئة عن الصابئة ويجب تغييرها، موضحة أن البعض يتهمهم بعبادة الكواكب والنجوم بسبب قبلتهم تجاه القطب الشمالي، أو أنهم يخنقون الحيوانات الميتة ليأكلوها، وغيرها من التفاصيل البعيدة عنهم.
تقلُّص أعدادهم
قلّصت هجرة المندائيين لأسباب مختلفة إلى بلدان عديدة أعداد العوائل المندائية في العراق بسبب الأوضاع الأمنية والظروف المعيشية في البلاد.
يقول الترميذا كريدي للجزيرة نت إن “هجرة المندائيين لم تكن ممنهجة بل خضعت للقدرة المالية والتمكن من السفر وبقي الكثير من العوائل في وطنهم اعتزازا منهم به ورجع آخرون لعدم تحملهم البعد عنه ويتمنى غالبية المندائيين المهاجرين استقرار الأوضاع للعودة على البلد.
وعن الأعداد التقريبية للصابئة المندائية يقول المختص بالشؤون المندائية وئام الزهيري إنه “لا توجد إحصائية حقيقية عن أعداد المندائيين في العراق، لأسباب كثيرة أولها وجود المندائيين في مناطق كثيرة من أنحاء البلد، لكن يقدر عددهم نحو 250 عائلة تضم بين 3 آلاف إلى 5 آلاف مندائي”.
والعلاقة بين الماء والمندائيين أزلية لا تنقطع أبدا، حيث يعتبرون المياه الجارية منزلة من الحي العظيم، لإعمار وتعمير وانتعاش الأرض، ولا يستطيع المندائي التخلي عنها كونها متعلقة بعقائدية الديانة، وأداء الطقوس الأخرى مثل (الرشامة) وتعني الوضوء و(البراخة) أي التبرك والدعاء للحي العظيم والصلاة.
المصدر : الجزيرة + وكالة سند