تعتبر الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في 15 مايو من الأصعب في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وهي تشبه سباحة النجاة الإلزامية في المياه العكرة، الغوص فيها مخيف، وعدم خوضها غرق قاتل للبلاد وللأفراد وللقوى السياسية.
وقانون الانتخاب المعتمد هو الأكثر تعقيدا على الإطلاق. القانون الأكثري أكثر وضوحا، والتعامل مع القانون النسبي باللوائح المقفلة أسهل ويحقق صحة تمثيل أكثر، والقوة السياسية التي دفعت باتجاه إقرار هذا القانون في العام 2017، بدأت تدفع ثمن تبنيه، وفي المقدمة منهم الرئيس سعد الحريري، وعلى درجة أقل القوات اللبنانية. أما التيار الوطني الحر فقد سلم الحالة السياسية التي كان يمثلها لقوى الممانعة، وهو يعتقد أن هؤلاء يضمنون له البقاء السياسي بقوة الأمر الواقع، وبقدرة الأصوات التفضيلية التي يمكن لحزب الله تجييرها له في عدد من الدوائر المختلطة.
حزب الله هو المستفيد الوحيد من القانون، لأنه يستطيع إقفال مناطقه أمام القوى المعارضة ويمنعها من تأمين حواصل التأهيل الأولية، كما أنه قادر على تجيير الأصوات التفضيلية لمن يشاء بقوة الفتوى، وبقدرة الربط المعيشي الذي يحكم علاقة عائلات جمهوره مع التمويل الذي يضخه في البيئة الحاضنة. بينما أخصامه السياسيين غير قادرين على مثل هذا التجيير، لأن مؤيديهم لا يطيعونهم بأي حال، إنما اختيار منح الأصوات التفضيلية عند غالبية جمهور هذه القوى، يخضع للتدقيق باسم المرشح، وما يمثله، قبل الالتزام بالتصويت له، كما أن التحالفات عند هذه القوى لها أهميتها في صناديق الاقتراع، لأن جمهور القوى السيادية يرفض ضم مرشحين لا يؤمنون بهذا الخط على سبيل المثال.
من المؤكد أن الانتخابات القادمة ستكون قاسية ومفصلية، ونتائجها ستحدد مستقبل لبنان، وليس صحيحا ما يروجه البعض في أن التغييرات التي قد تحصل – ومنها قلب الأكثرية من القوى المؤيدة لحزب الله الى القوى المعارضة له – لا تصرف في الاستحقاقات المستقبلية، وهؤلاء يقولون إنه لا يمكن انتخاب رئيس جمهورية من دون موافقة حزب الله مهما كان عدد النواب المؤيدين لهذا الرئيس، كما أن الحكومة لا تشكل من دون رضا حزب الله حسب زعمهم، لأن الحزب سيستخدم قوة فيتو الميثاقية محل قوة الأكثرية، وهو يسعى مع رئيس مجلس النواب نبيه بري للفوز بكل النواب الـ 27 الذين يمثلون الطائفة الشيعية، وبالتالي يمكنه رفض الاشتراك بأي حكومة لا يوافق عليها، من خلال حجب ثقة كل نواب الطائفة الشيعية بها، وفي هذه الحالة تعتبر الحكومة غير ميثاقية وتخالف مقدمة الدستور.
وعلى الوجهة الأخرى من الصراع، فإن تداعيات إعادة حصول حزب الله وحلفائه على الأكثرية النيابية، قد تؤدي الى إلغاء الصيغة برمتها، وعندها ستكون الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، بما في ذلك تكريس ازدواجية سلطة تعتمد على ميثولوجية فقهية، يكون فيها القرار للموجه الأعلى وللسلاح غير الشرعي، وتكون مؤسسات الدولة في خدمة الخط، وتسير بتوجيهات المرشد، وقد عاش لبنان جزءا من هذه التجربة في سنوات الحكم الحالي. وأدت هذه السياسة الى ما أدت إليه من انهيار وإفقار.
بطبيعة الحال لم يعد بالإمكان تغيير قانون الانتخاب قبل حصول الاستحقاق، والقوى الديموقراطية والسيادية ملزمة بخوضها تحت هذا السقف، مهما بلغت الصعوبات. لكن التجارب المريرة أثبتت بما لا يقبل أي شك، أن القانون النسبي مع صوت تفضيلي واحد في دوائر صغيرة، وتحت سقف التوزيع الطائفي للسلطة، سيؤدي الى تدمير الفكرة اللبنانية العربية برمتها مع الوقت، وسيعمق الطائفية بوجهها السافر، وربما يقضي على التوازن السياسي لصالح شرذمة مجتمعية طائفية ومناطقية، وليس بالضرورة أن يحسن التمثيل المسيحي.
أما وقد وصل لبنان الى هذا الدرك، فإن خوض الانتخابات هو الخيار الوحيد المتاح لاستعادة السيادة المفقودة، ومن السيادة يمكن الانطلاق الى الإنقاذ وتحقيق الإصلاح.