عبد الكافي الصمد
خلال سنوات الحرب الأهلية 1975 ـ 1990 نزحت الكثير من مدارس الإرساليات الأجنبية إلى خارج طرابلس، وتحديداً إلى الكورة وطرابلس، لأسباب عديدة بعضها أمني وبعضها له علاقة بتوسعة هذه المدارس نطاقها، ومحاولاتها إستقطاب طلاب أكثر من مختلف المناطق، وهو أمر كان غير ممكن في المدينة حينها.
بعد انتهاء الحرب إستمرت حركة نزوح مدارس الإرساليات ومدارس خاصّة أخرى من طرابلس، كما افتتحت مدارس وجامعات ومعاهد خاصّة فروعاً لها خارج المدينة، باستثناء قلّة منها، ما جعل أغلب المدارس والجامعات الخاصّة والرسمية معاً، ومنها فروع الجامعة اللبنانية في طرابلس والشّمال، تنتقل إلى ضواحي المدينة تباعاً.
هذه المدارس والجامعات والمعاهد، سواء الرسمية منها والخاصّة التي نمت كالفطر في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، وازدهرت، بدأت قبل عامين تواجه صعوبات جمّة لم تكن تتوقعها ولم تكن في حسبانها، ما جعلها تشهد تراجعاً في أعداد طلابها وأساتذتها معاً، وينتظر أن تواجه هذا العام صعوبات أكبر، حيث بدأ الحديث يدور عن مواجهة هذه المؤسّسات التربوية أزمات كبيرة.
فالأزمة المعيشية والإقتصادية الخانقة التي يعيشها معظم اللبنانيين، ويرزحون تحت أعبائها منذ نحو سنتين، بفعل إنهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي بشكل كارثي، أرخى بثقله على مختلف القطاعات، وكان للقطاع التربوي نصيب منه.
فإذا كانت الأقساط المدرسية والجامعية في المدارس والجامعات الخاصّة سابقاً شكّلت أزمات لطلابها وأهاليهم، فإنّ هذه الأقساط باتت أزمة عادية مقارنة بالأزمات الأخرى التي فرّخت في السنتين الأخيرتين، وتحديداً إرتفاع أسعار الكتب والقرطاسية وارتفاع تكلفة بدل النقل للطلاب، إضافة إلى هجرة آلاف الأساتذة المتفوقين إلى الخارج بعدما وجدوا أنّ التدريس في لبنان لم يعد يطعم خبزاً، فضلاً عن إنتقال آلاف الطلاب من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسمية في السنتين الأخيرتين.
بلغة الأرقام، فقد أظهرت النشرة الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء مؤخراً، وعلى مستوى لبنان، أنّ 9500 أستاذ تركوا التدريس، و4 آلاف أستاذ غادروا للخارج، وأنّ عدد طلاب المدارس الخاصّة إنخفض أكثر من 73 ألف طالب، بينما ارتفع عدد طلاب المدارس الرسمية في الفترة ذاتها فوق ما يزيد على 62 ألف طالب.
في طرابلس لا يبدو المشهد مختلفاً، لا بل يمكن القول إنّه تفاقم أكثر من بقية مناطق لبنان الأخرى، حتى بات يمكن القول إنّ المؤسّسات التربوية الموجودة في طرابلس أو في جوارها، تواجه مشكلة حقيقية، ليس بما يتعلق بالأقساط وأجور الأساتذة، إنّما بما يتعلق بأجور النقل وأسعار القرطاسية التي باتت تفوق قدرة أيّ عائلة متوسطة الحال على تأمينها، وأنّ المشكلة الرئيسية التي تواجهها هذه المؤسّسات التربوية أن موظفي القطاعين العام والخاص، الذين يشكل أبناءهم العدد الأكبر من طلاب هذه المؤسّسات، لم يعودوا قادرين على إرسال أولادهم إليها بفعل تآكل رواتبهم.
وبلغة الأرقام أيضاً يمكن فهم المشكلة على حقيقتها. ففي مدرسة متوسطة الحال يبلغ قسطها السنوي 3 ملايين ليرة، فإن أسعار الحقيبة المدرسية والقرطاسية والمريول والكتب تكاد توازي أو تزيد القسط بأكمله، كما أن بدل النقل شهرياً بات يتراوح بين مليون ليرة داخل طرابلس وبين مليونين إلى 3 ملايين خارج المدينة، وإذا ما أضيف إليها الخرجية وبقية النفقات، فإن تكاليف تعليم أي طالب في مدرسة “على قد الحال” سيكون مكلفاً ومرهقاً لأي عائلة.
باختصار، إن مستقبل القطاع التربوي ومستقبل الأجيال في مهبّ الريح، ومع ذلك لا من يتحدث أو يبادر للإنقاذ ووضع حدّ لهذا الإنهيار في بلد كان مدرسة الشّرق وجامعته.