“احنا بدنا ولادنا (في الأسر) يروحو (يخرجوا من السجون) غصبن عنهم .. يمكن أن تفشل عشرات العمليات لفك أسرهم، وتنجح واحدة، لكننا سننجح”، بتلك الكلمات التي تعود لمؤسس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” الشيخ أحمد ياسين، يستحضر الفلسطينيون صور انتصارهم على السجان الإسرائيلي، والتي تحمل في طياتها إرادة الانعتاق من قيد الأسر في سجون المحتل
تلك السجون التي أسر بها أكثر من مليون فلسطيني، منذ عام 1965، ذاقوا خلالها آلام الانعزال وفقد الحرية، حتى غدا التفكير بالانعتاق هو الأمل الذي يداعب خواطرهم، فنجحت تلك المحاولات تارة وأخفت تارة أخرى، لكن ما يجمع عليه العدو قبل الصديق، أن المحاولات مازالت مستمرة بلا يأس، آخرها عملية سجن “جلبوع” الإسرائيلي.
أعادت عملية تحرر ستة من الأسرى الفلسطينيين من سجن “جلبوع” شديد التحصين، لأذهان أسرى سابقين حاولوا لمرات عديدة كسر قيد السجن والخروج منه بطرق مشابهة، تلك المواقف التي بقيت محفورة في وجدانهم.
رسم خارطة الزنزانة
من بين هؤلاء الأسرى، المحرر المبعد إلى قطر، ضمن صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، عبد الحكيم حنيني، حيث لفت إلى أنه من “بداية تاريخ الاعتقالات وأصحاب الأحكام العالية يتوقون إلى الحرية، ويناضلون من أجلها، ويفكرون في سبيل نيلها”، مضيفا: “أي خطة تأتي إلى أذهانهم لأجل التحرر يستثمرونها ويتدارسونها بينهم
“لم تنجح محاولتي في التحرر من سجن جلبوع عام 1998، لكنها كانت محاولة في البحث عن الحرية، خاصة وأنها كانت تراودني وأصدقائي ليل نهار” يقول حنيني.
ويسرد حنيني، تفاصيل عملية تحرره مع بعض الأسرى الذي لا يزال عدد منهم في الأسر، بالقول: “بدأت الفكرة باتفاق مجموعة من الأسرى على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، للقيام بتنفيذ خطة التحرر”
ويضيف: “بعدها تم تحديد الأدوات المطلوبة وكذلك تحديد مكان الزنزانة، التي وقع عليها عملية الحفر، وكانت زنزانة رقم 16 في القسم 11، والذي يقع مقابل سور السجن، للبدء في رسم خارطة الفرار”
ويتابع شرحه للعملية: “تم تهريب بعض المعدات الخاصة لقطع الأسلاك الحديدية مثل المنشار، وبعض الشفرات، بالإضافة إلى أية أداة حديدية صغيرة كانت أمامنا”
ويشير إلى أنه “تم وضع خطة مفصلة لعملية الحفر، وعمليات المناوبة والحراسة، بالإضافة إلى تحديد ساعات الحفر، والتي بلغت 18 ساعة، يتناوب عليها 14 أسيرا من داخل الزنزانة نفسها”.
وبيّن أن “عمليات الحفر الأولى تتركز على الحفر حول بلاطة محددة يقع عليها الاختيار، لتكون مدخل النفق، بخلعها أولا، ثم الوصول إلى التراب من أسفلها، وهذه العملية تكون صعبة وخطورتها عالية” بحسب وصفه
ويقول حنيني: “ما سهّل عملية الحفر هو طبيعة التراب الموجود في جلبوع، وهو تراب أحمر يذوب في الماء وتكون أموره في التصريف أسهل من الرمل العادي، حيث استمر معنا حفر النفق آنذاك 77 يوما، إلى أن وصلنا لطول 20 مترا”
ويضيف: “في يوم التنفيذ نزل 23 أخا الساعة الثانية فجرا داخل النفق، وتمكن ثلاثة من الخروج بسلام، لكن الأخ الثالث أحدث صوتا بحذائه، وكان يفترض أن يكون حافي القدمين كباقي الأسرى، مما أثار انتباه كلاب الحراسة من الجهة الداخلية للسور، وأيقظ الحارس النائم، وتم إحباط العملية”
تعليقا على عملية “الأسرى الستة”
يقول حنيني: “من خلال مشاهدتي للفيديو المتداول من قبل مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية الخاص بعملية فرار الأسرى الستة، فإن الاستفادة من أخطاء عمليات التحرر في سنوات الانتفاضة الأولى والثانية كانت حاضرة”
وأضاف:”كانت عملية الحفر الأخيرة للأبطال الستة بعيدة عن سور السجن، في حين نفقنا كان بالقرب، وهو ما سهل عملية اعتقالنا مجددا بعد التحرر من السجن، بيد أن نقطة الاتفاق بيننا أن السجان الذي كان يحرس سور السجن كان نائما كما السجانة في عملية الفرار الأخيرة، وهذا تقدير عظيم من المولى”
لماذا لم يكتشف الاحتلال عملية هروب “الأسرى الستة”
يسرد الأسير المحرر حنيني، سببين لعدم كشف السجان الإسرائيلي لعملية الحفر من بدايتها، “أولا: التوفيق والرعاية من الله التي يستشعرها الأسير من البداية حتى النهاية، والثانية تكمن في الإجراءات الأمنية المشددة التي يتخذها الأسرى والمتمثلة في السرية التامة للعمل”، مستذكرا موقفا مشابها لهم في محاولات انتزاع حريتهم قائلا: “حينما كان الأسرى ينزلون إلى النفق للحفر كنا نضع الملابس على أسرتهم ليظن السجان أنهم نائمون وفي أماكنهم”.
وعن الأدوات التي يستعين بها الأسرى في عمليات حفر يضيف حنيني: “للأسرى طرق كثيرة قد لا تخطر على العقل في سبيل نيل الحرية، حتى أن الكثير من ضباط الأمن الإسرائيلي تعرضوا إلى المساءلة بعد تمرير بعض الأدوات للأسرى مقابل إغرائهم بالمال”
أربع محاولات لنيل الحرية
قصة المحرر الحنيني لا تختلف كثيرا عن الأسير المحرر والمبعد إلى قطر أيضا، نزار رمضان الذي أفرج عنه في صفقة “وفاء الأحرار”، والذي قال إن “التخطيط لعمليات التحرر يحتاج إلى أشهر، وقد يمتد إلى سنوات”
وبيّن في حديثه إلى ” قدس برس”: “أن من يعرف الفلسطيني وعاش معه داخل السجن ولياليه القاسية، يدرك تماما أن أشياء كثيرة يمكن أن تحصل بعد الاعتماد على الله، وجهد الأسرى وفقا للإمكانات المحدودة”، لافتا إلى القناعة الراسخة التي يعيش عليها الأسرى اليوم، وهي “لا للمستحيل”، لافتا إلى أن عمليات انتزاع التحرر ليست بسيطة؛ حيث يعقبها عقاب شديد وعزل انفرادي، وتعذيب ووسائل إهانة على مدار الساعة”
وأضاف: “من لا يصدق هذه الحكايات، لم يعش أصلا التجربة، ومعاناة الأسرى والتفكير الذي يراودهم في كل لحظة، فمن الطبيعي جدا أن نسمع عن حفر نفق بالملعقة، وربما تسمعون غدا بالشوكة” على حد تعبيره.
وأوضح رمضان، أنه نجح في التحرر من سجن عسقلان، بعد ثلاث محاولات باءت بالفشل، عقب سنوات وأشهر من التخطيط والتدريب، “بدءا من سجن الجلمة عام 1998، ومحاولة من عربات نقل الأسرى (البوسطة) في الطريق إلى محكمة عرابة، بينما الثالثة من سجن السبع”
وبين أن تلك التجارب تخللتها مراقبة حراس السجن، ومعرفة كل تفاصيل السجن الدقيقة داخله وخارجه، واستخدام أدوات بسيطة للتحرر، مثل خلع شبابيك الحائط المحاطة أصلا بفولاذ حديدي، وأخرى عن طريق الأسلاك الحديدية، موضحا: “في كل عملية تخطيط، نحاول التدريب وممارسة الرياضة؛ حتى تكون أجسامنا قادرة على الهروب ومتلائمة مع المساحة المتاحة للهرب”
حزام الحقيبة.. أداة الهروب
يحكي الأسير المحرر رمضان، عن قصة تحرره الأخيرة من سجن عسقلان المركزي والمعروف أيضا بإجراءاته الأمنية المعقدة من قبل إدارة سجون الاحتلال، حيث كانت محاولة التحرر من خلال نفق تم حفره في الطابق الأرضي من السجن، مضيفا: “بعد محاولات كثيرة تمكنت والشباب الأسرى من اختراق السقف والخروج إلى سور السجن عام 2002”.
يضيف: “خارج السجن، كانت الكثير من الكلاب البوليسية، والجيبات العسكرية تحوم حول المكان على مدار الساعة، ناهيك عن الأسلاك الشائكة والكاميرات المنتشرة في كل زاوية، بيد أن عناية الله كانت قد سهلت لهم المهمة إلى أن وصلوا إلى حدود قطاع غزة”
ويضيف في هذا الصدد أن “أداة التخطيط لعملية الفرار كانت منشار حديدي صغير، لقص الأسلاك الشائكة في الممر وتسهيل العبور صوب السور خارج السجن، فضلا عن الاستعانة بحزام الحقائب الخاصة بالأسرى لإنشاء أيضا حبل طويل لرميه على السور والمشي عليه، بعد أن قدرنا المسافة 25 متر، وبالفعل تم ذلك، ونجحنا في التحرر”
من عسقلان إلى غزة.. مشيا
خلال العمل على عملية حفر النفق اجتهد المحرر رمضان وزملائه الأسرى في ممارسة أنشطة الرياضة لأجل اللياقة البدنية وتسهيل المشي فوق الحبل، حيث كان الموعد في شهر رمضان من عام 2002، مضيفا: “لبسنا ملابس لونها بني حتى لا تلتفت إلينا إدارة السجن وهو الزي المعروف أصلا في الزنانين، وأخذنا بعض الطعام، وكنا قد هربنا أيضا جهاز تلفون، وأحد الفلسطينيين كان ينتظرنا في الخارج لتسهيل عملية التحرر عبر سيارة تابعة للاحتلال استطاع العثور عليها”.
لا يعرف بالتحديد، كم المسافة التي قطعا نزار وصديقه للفرار من سجن عسقلان إلى غزة، إلا أنها كانت شاقة وفيها مغامرة كبيرة، حتى أن صديقه كان في همة عالية قائلا:”حتى لو تم القبض علينا من جديد فأنا أشعر بسعادة لأنني حاولت الحصول على الحرية ورأيت الشمس”.
وما أن وصلا إلى غزة حتى ظن الإسرائيليون المنتشرون على الحدود مع غزة أنهم استشهاديان قادمان من القطاع، حينها تم كشف عملية هروبهم، واستدعى جيش الاحتلال فرق التفتيش، وتم اعتقالهم وإرجعاهم إلى السجن مؤخرا، لكن هذه المرة في زنزانة انفرادية لمدة ثلاث سنوات تخللها وسائل من الإهانة النفسية والجسدية.