منذ أيام قليلة أصدر البنك الدولي تقريراً بعنوان “التأسيس لمستقبل أفضل: مسار لإصلاح التعليم في لبنان”، حذر فيه من تراجع وتدني مستوى التعليم في لبنان، مطالباً بأجندة للإصلاح الشامل، ومقترحاً توصيات لإصلاح السياسات التربوية تتلاءم مع أهداف مسودة الخطة الخمسية لوزارة التربية والتعليم العالي،
ووفق تشخيص المشكلة، يجد البنك الدولي أن الأزمات المتفاقمة التي تعصف بلبنان منذ تدفّق اللاجئين السوريين، والأزمة الاقتصادية والمالية، وفيروس كورونا، وانفجار مرفأ بيروت سبّبت ضغوطاً حادة على نظام تربوي متعثّر أصلاً. وكانت مستويات التعلّم منخفضة نسبياً قبل الجائحة، متوقعاً مزيداً من التراجع في مستوى التعلّم، حيث يواجه الطلاب اللبنانيون فعلياً سنة دراسية ضائعة.
وشدد على الاستجابة لحل الأزمة تقتضي حلولاً محلية، وزيادة الاستثمار كمًّا وكيفاً في تحسين النتائج التعليمية للأطفال وتزويد الشباب اللبناني بالمهارات التي يتطلبها سوق العمل.
الواضح أن الازمة الاقتصادية أدت إلى ارتفاع نسبة الفقراء ولهذا ترتفع معدلات التسرب المدرسي وانتقال مزيد من الطلاب من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية، لذلك يقدم البنك مقترحات لإعادة هيكلة القطاع التربوي وتوصيات للإصلاح: منها إعادة هيكلة تمويل القطاع، دراسة تشخيصية لدعم جهود التغلّب على أزمة التعلّم، تحسين آليات الاستفادة من المعلمين وجودة التدريس، البيئة المدرسية وتدابير المساءلة التربوية، إستراتيجية التعليم وإصلاح المناهج الدراسية، التعليم في الطفولة المبكرة، الانتقال من المدرسة إلى سوق العمل.
لا شك أن هذا التقرير يفتح باب النقاش حول وضع التعليم في لبنان ومن هنا كان لا بد لـــ”لبنان الكبير” من تسليط الضوء على المشكلات والحلول لعل وعسى يسير العام الدراسي المقبل بطريقة أفضل.
الأمين: لا جديد في تقرير البنك الدولي
فتعليقاً على ما ورد يرى الخبير التربوي الدكتور عدنان الأمين أن البنك الدولي عندما يتحدث عن انخفاض مستوى التعليم في لبنان لا يقول شيئاً جديداً وهو كلام لا معنى له، “فلبنان كان سابقاً متقدماً واحتل موقع أول دولة عربية وفق تقارير العام 2003 مثلاً، لكن في العام 2016 تراجعنا. كنا أول دولة في الرياضيات مثلاً والأسوأ في العلوم، الآن تراجعنا بالاثنتين، ونحن تحت مستوى المعدل العالمي، بالمحصلة تراجعنا وهناك أدلة قوية على أن مستوى التعليم ينهار وهناك ضعف مبرهن عالمياً”.
ساهم الدكتور الأمين من خلال دراساته في وضع اليد على الجرح التعليمي في لبنان بالأرقام، وحدد أسباب تراجع المدرسة الرسمية، منتقداً أسلوب التعامل مع مشكلات التعليم ومعتبراً أن معظمها يتعلق بالسياسة والإيديولوجيا والاعتماد على التنفيع الحزبي والطائفي في التعيينات من دون الأخذ بالاعتبار شروط الكفاءة بل العمل بمبدأ التقاسم والتحاصص، وإن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إذا استمر التفكير بحل الأمور وفق منطق يعزز الفساد في التعيينات وإدارة الملفات، فالوضع التعليمي يدار كما تدار كل الأمور بالبلد دون أي حس بالمسؤولية تجاه هذا القطاع الهام، رغم المساعدات الدولية لتطويره والتي تصرف كما هي اليوم في غير مكانها ووفقاً لحاجات تنفيع التابعين والمدعومين من الزعماء، وهو أمر سائد منذ العام 2000 عندما تسلم وزارة التربية عبد الرحيم مراد وصار التلامذة في المدارس محكومين بحكم المكاتب التربوية للأحزاب التي تصل أيديها إلى الداتا وغيرها”.
ولا يجد الأمين أن المشكلة اليوم في تدهور الوضع الاقتصادي، فهو منهار لأسباب سياسية، “فليست المشكلة في انخفاض مستوى معيشة المعلمين، المشكلة في أن النظام التعليمي مسيس، تجري التعيينات في المدراس وفق إرادة الزعماء منذ إلغاء شرط تعيين الأساتذة من الحائزين على الإجازات والشهادات التربوية، ما يسمح للمتعاقدين بالدخول إلى قطاع التعليم بحكم واسطة زعيم ديني أو سياسي والاستنسابية لا بحكم مؤهلات تربوية ولا رقابة عليهم لضبط الأداء على الأقل”.
ويعتبر أن “هذا الوضع مؤشر واضح على أن الوظيفة التعليمية موضوعة تحت رحمة السياسيين وتحول المدارس الرسمية مشاع للأحزاب الحاكمة”.
ولا يخفي الأمين أن هناك سبباً أيديولوجياً، فالوزراء يفضلون التعامل مع القانون الحالي الذي يسمح للوزير بأن ينفّع السياسي ويصبح الإصلاح صعباً”. مشيراً إلى مشاريع إصلاحية عديدة موجودة ومولت من البنك الدولي وغيره ولا تقوم بمشروع وتساهم في تمويله وتخدم السياسيين الموجودين، وهم معروفون بأنهم ينفّعون أزلامهم في القطاعات، اإا أن فكرة الإصلاح تنتهي مع انتهاء التمويل الذي يستفيد منه أزلام السياسيين في الوزارة والإدارة وغيرها”.
ويشدد الأمين على أنه يدافع عن قضيه وطنية، ومن هنا لا بد من خطاب جديد في الدفاع عن الجامعة والمدرسة اللبنانيتين وليس اجترار خطاب الخمسينيات الذي سمعناه مؤخرًا حتى في انتفاضة 17 تشرين، فإصلاح التعليم يحتاج إلى غير برنامج الأحزاب وعلى الجميع في المواقع التربوية للانتفاضة التخلص من شعارات لا تقول شيئاً مثل شعار تعزيز الجامعة اللبنانية”.
جوليا وحسرة التعليم الرسمي
ما هو رأي المعلمين فيما ورد في تقرير البنك الدولي وأوضاع التعليم في لبنان حالياً؟ تتحدث المدرِّسة في التعليم الثانوي جوليا ط. بحسرة كبيرة عن التعليم وما وصل إليه خصوصاً في السنتين الأخيرتين، “حيث شهدنا على أسوأ أزمتين في تاريخ لبنان، وكان لهما أثرهما الكبير على التعليم كما على مختلف القطاعات. أولاً، على الصعيد الصحي مع بداية كورونا تعرض عدد كبير منا في المدارس والتقطنا العدوى، وأنا من بين الذين أصيبوا إلى حين اتخاذ القرار الرسمي بإقفال المدارس والتعلم عن بعد وعانينا الكثير في هذا الموضوع، ويعرف الجميع أن المدارس الخاصة ليست مجهزة تقنياً، كما نحن لم نكن حاضرين لفكرة التعلّم عن بعد”.
وتستدرك بالقول: “لكن مع الوقت نحن كأساتذة تخطينا المشكلة، لكن تبين أن بعض التلاميذ ليس لديهم اشتراك انترنيت في منازلهم أو حتى لا يملكون جهاز كومبيوتر، ما دفعني أنا وبعض الزملاء إلى الانتقال إلى منازل التلاميذ أو استقبالهم في منازلنا كي يبقوا على الأقل في الجو ونعوّض عليهم بعضاً من البرنامج. الآن أصبحنا على مشارف انتهاء العام الدراسي الذي بذلنا كل جهدنا واستنفدنا كل طاقاتنا لتمريره بالتي هي أحسن. مع العلم أننا نتحضر نفسياً من الآن لمعاناتنا مع التلاميذ في السنة المقبلة”.
ووفق توقعاتها، فإن “العمل سيكون مضاعفاً لأننا سنأخذ بالاعتبار أن التلميذ رغم كل جهودنا، لم يتلقَّ برنامجه كاملاً وبالطريقة الاعتيادية، أي الحضور إلى الصف. وهذا له أثره الكبير على الصعيدين النفسي والتعلّمي للتلميذ”.
أما على الصعيد الاقتصادي، فتقول: “حدّث ولا حرج، لأن الاستاذ في الأيام العادية يعتبر مغبوناً، فكيف الحال مع الأزمة الاقتصادية الخانقة، إذ إن معاشنا لا يساوي 200 دولار، وبات لا يكفي لزيارة سوبرماركت أو كشفية طبيب وشراء أدويتنا، لكن ضميرنا المهني تجاه تلاميذنا الذين نعتبرهم أبنائنا، لا يسمح لنا بالتقصير مع العلم أن اثنين من زملائي في المدرسة، هاجرا إلى كندا، وهذا حقهما لأنهما يريدان العيش بكرامة وببحبوحة، وهذا مفقود في بلدنا اليوم ليس بالنسبة للأستاذ فقط بل لكل موظف يعمل بعرق جبينه”.
ولا تخفي جوليا خوفها على “مستوى التعليم أولاً، لأننا نخسر خيرة المدرسين، وثانياً، لأن الأستاذ لا يهدف بمعاشه أن يصبح ثرياً، لكن على الأقل أن يعيش حياة لائقة به ولا يحتاج إلى المساعدة. البعض من زملائي الذين يأتون من قرى بعيدة، أصبح لديهم هاجس الوصول إلى المدرسة لانقطاع البنزين ولسعره المرتفع بالنسبة لنا، وهذا ينسحب على التلاميذ وأهلهم الذين باتوا يحسبون ألف حساب لأي حركة لأن الكل يعاني من الضائقة”.
محرز: تعديل المناهج نحو الرقمية
من جهتها، تقول أمينة الإعلام في رابطة أساتذة التعليم الثانوي ملوك محرز أن “الكورونا كشفت نقاط الضعف في مناهجنا، لأن طريقة الـــ online تحتاج إلى مناهج رقمية، ومناهجنا قديمة وغير معدلة، فاضطررنا إلى استخدام طرق جديدة مع مناهج قديمة. جهد الأساتذة في هذا الإطار جبار لأنهم وجدوا أنفسهم أمام عملية تعليم بإمكانيات صفر وبتجهيزات وتدريبات صفر. كورونا نبهتنا على إعادة النظر بمناهجنا، وتدريب الطلاب والأساتذة على الأطر التعليمية الجديدة”.
وبرأيها أن جائحة كورونا “ارتبطت بتدهور اقتصادي سريع، ما أثر على الوسائل التي يستخدمها الطلاب، وزارة التربية مثلاً وعدتنا بتأمين الألواح الإلكترونية للأساتذة والطلاب، لأن تدني القدرة الشرائية المرتبط بتدني الرواتب أعاق أن يكون لدينا تجهيزات كاملة. كل ذلك عرقل عملية المتابعة مع الطلاب في
الـ onlineخصوصاً في المناطق البعيدة والأرياف، ولأن الإنترنيت كان سيئاً إضافة إلى الانقطاع المستمر بالكهرباء” .
وتشرح: “كنا نعمل بشكل أن كل شخص مسؤول عن نفسه بمعنى أن كل ثانوية تتكل على نفسها في القرارات لتقديم واجباتنا للطلاب الذين لا دخل لهم في كل الأزمات التي نمر بها”.
وتقول: “بعد كل الذي مررنا به أصبح من الضروري جداً تعديل المناهج التربوية، والأساتذة بحاجة إلى التقدير المعنوي والمادي في ظل التدهور السريع لقيمة الرواتب. اليوم خسرنا أكثر من 90 في المئة من قيمة الرواتب التي لا تكفينا لأول يومين من الشهر. ورغم حرمان الأساتذة من كل شيء، لكنهم أصروا على المتابعة مع الطلاب لأنهم مؤمنون أن التعليم رسالة وليس مهنة”.
وتجد محرز أن “كل النقاط التي ذكرها البنك الدولي نحن بحاجة إليها. نحن بحاجة أولاً إلى تأمين بنية تحتية سليمة، كهرباء وانترنيت، كما أننا بحاجة إلى بيئة نفسية سليمة لأن الجو النفسي في البلد أثر سلباً على اندفاعة التعلم لدى الطلاب، وتوجهوا إلى سوق العمل باكراً. تفاجأنا بعد عودة التعلم في الصفوف أن كل الطلاب يعملون لمساعدة أهلهم. نحن بحاجة إلى ورشة تدريب سريعة للأساتذة، وبحاجة إلى إعادة النظر بالمناهج وتحويلها إلى مناهج رقمية، ونعيد النظر في التخصصات الموجودة في الجامعات لتتناسب وسوق العمل”.
المصدر: ” لبنان الكبير “