لم تنتهِ مستجدّات التعميم 158، الذي يُعنى بتقسيط ودائع ما قبل 17 تشرين بدفعات شهريّة نصفها بالدولار النقدي ونصفها بالليرة. فخلال الأيام الماضية، أظهرت العديد من الخطوات التمهيديّة، التي تقوم بها المصارف ومصرف لبنان لتنفيذ مندرجات التعميم، أنّ معظم اللبنانيين سيدفعون ثمن تطبيقه من اللحم الحيّ، من خلال إجراءات وصلت إلى حدّ المساس بالرواتب التي لن تكون مضمونة في بداية الشهر القادم، بالتوازي مع بدء تنفيذ التعميم.
فمنذ الإعلان عن التعميم، اعتمدت الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة أحد خيارين:
- بعض المصارف قرّرت بشكل مفاجىء اعتماد سقوف جديدة ومنخفضة جدّاً للسحب النقدي من حسابات توطين الرواتب، حيث وصلت سقوف السحب إلى أقلّ من مليون ونصف مليون ليرة شهرياً في بعض الحالات. هذا الإجراء سيعني عمليّاً تحويل جزء كبير من رواتب الموظفين، قد يصل إلى أكثر من نصف الراتب في الكثير من الحالات، إلى مجرّد أرصدة مصرفيّة لا يمكن سحبها، ولا يمكن استعمالها حتّى في المحلّات في ظل رفض التجار لدفعات البطاقات المصرفيّة. أمّا الطريقة الوحيدة لإخراج الموظّفين من “كمّاشة” المصارف هذه، فهي عبر دفع الرواتب نقداً من قبل الشركات.
تتّجه شركات القطاع الخاص، ابتداءً من أوّل الشهر المقبل، نحو أزمة سيولة خانقة، مع تعذّر استعمال أموالها المصرفيّة لدفع الرواتب - أمّا البعض الآخر من المصارف، وهنا المشكلة الكبرى، فأبلغ الشركات صراحةً عدم قبوله تحويل الرواتب من حسابات الشركات إلى الموظفين، ابتداءً من مطلع الشهر القادم. البديل الوحيد بالنسبة إلى الشركات، في هذه الحالة، هو أيضاً توفير أموال جديدة لدفع الرواتب نقداً وباليد للموظّفين، أو إيداع “الليرات الطازجة” في المصارف ليوافق المصرف على تحويلها إلى حسابات الموظّفين.
في الحالتين، الشركات ستكون غير قادرة على سحب أموالها بالليرة من المصارف بكمّيات كبيرة، وهو ما يعني احتياجها إلى قدر كبير من السيولة النقديّة الجديدة إذا أرادت إخراج موظّفيها من هذه الورطة المصرفيّة عبر سداد الرواتب بالنقد الورقيّ من دون المرور بالمصارف. لذلك تتّجه شركات القطاع الخاص، ابتداءً من أوّل الشهر المقبل، نحو أزمة سيولة خانقة، مع تعذّر استعمال أموالها المصرفيّة لدفع الرواتب، إلا إذا أرادت بعض الشركات تحميل الموظّف عبء الأزمة عبر تحويل الراتب بمعزل عن إمكان سحبه، في حال وافق المصرف على التحويل.
تُجمِع المصادر المصرفيّة، في حديثها مع “أساس”، على رمي المسؤوليّة على مصرف لبنان، الذي حاول تقنين كمّيات السيولة النقديّة التي يسلّمها إلى المصارف إلى أقصى حدّ، للحدّ من كمّيات النقد الورقي المتداول في السوق. أمّا سبب هذا الإجراء من قبل مصرف لبنان، فهو ببساطة إقباله على تطبيق التعميم 158، الذي ينصّ على دفع نصف قيمة السحوبات بالليرة اللبنانيّة، ووفق سعر المنصّة الجديد، البالغ حالياً 12,000 ليرة للدولار. بمعنى آخر، ما يقوم به مصرف لبنان هو الحدّ من الكتلة النقديّة التي تُضَخّ في السوق من خلال الحسابات الجارية، بما فيها حسابات التوطين، مقابل كمّيات السيولة التي سيضخّها من خلال تطبيق التعميم 158.
تُجمِع المصادر المصرفيّة، في حديثها مع “أساس”، على رمي المسؤوليّة على مصرف لبنان، الذي حاول تقنين كمّيات السيولة النقديّة التي يسلّمها إلى المصارف إلى أقصى حدّ، للحدّ من كمّيات النقد الورقي المتداول في السوق
من ناحيته، يبدو أنّ مصرف لبنان يملك خارطة معقّدة من أدوات ضبط السيولة التي يعمل عليها للمرحلة الآتية، بحيث تبدو مسألة حسابات توطين الرواتب تفصيلاً صغيراً في مشهد شديد التعقيد.
رفع سعر بيع الدولارات المدعومة التي يقدّمها مصرف لبنان لاستيراد السلع الأساسيّة خلال الأيام المقبلة، سيمكّن المصرف من زيادة كمّية الأموال التي يمتصّها من السوق بالليرة اللبنانيّة، خصوصاً أنّ المصرف يطلب إيداع الأموال لشراء هذه الدولارات بالسيولة الورقيّة. أمّا منصّة مصرف لبنان، التي تبيع الدولارات حالياً وفق سعر 12,000 ليرة للدولار، فتساهم أساساً بامتصاص المزيد من السيولة المتداولة بالليرة، وهو ما ظهر من خلال انحسار الزيادة نصف الشهريّة في النقد المتداول بالليرة في الأسواق.
كلّ هذه الخطّة يعمل عليها المصرف المركزي اليوم ليتمكّن من امتصاص قيمة سيولة موازية لتلك التي يضخّها عبر دفع نصف قيمة السحوبات بالليرة وفقاً للتعميم 158، كي لا يؤدّي التعميم إلى تضخّم كبير في قيمة النقد المتداول بالليرة، وللحؤول دون انهيار سريع في سعر الصرف. لذلك يبدو أنّ مصرف لبنان يعمد إلى تقنين كمّيات السيولة التي يسلّمها إلى المصارف لإتمام هذه الخطة، وهو ما انعكس أخيراً في أزمة حسابات التوطين. مع العلم أنّ مصادر المصرف المركزي تؤكّد أنّ استرسال مصرف لبنان في ضخّ السيولة بالليرة لتمويل السحوبات النقديّة من المصارف، سيعاكس كلّ ما يحاول مصرف لبنان القيام به من خلال امتصاص السيولة من السوق قبيل تطبيق التعميم 158. وفي خلاصة الأمر: سيدفع أصحاب حسابات التوطين الثمن.
إقرأ أيضاً: الطبابة بالفريش دولار: المقابر بانتظار الفقراء
سيحمل الأسبوع المقبل تطوّرات حاسمة بخصوص طريقة تعامل الشركات مع هذه الأزمة، وأثر الأزمة على سيولتها، خصوصاً أنّ أيّاماً قليلة فقط تفصلنا عن موعد دفع رواتب الشركات في نهاية الشهر، في حين أنّ هذه الإجراءات المصرفيّة ظهرت فجأة ومن دون سابق إنذار. ما يزيد الأمور سوءاً أنّ موظّفي القطاع الخاص لن يتمكّنوا من تحمّل ضربة بحجم حبس جزء من رواتبهم في الحسابات المصرفيّة، خصوصاً في ظل الضغوط المعيشيّة الناتجة عن انزلاق البلاد نحو مرحلة رفع الدعم تدريجياً عن السلع الأساسيّة، وما سيرافقها من تضخّم وغلاء في الأسعار.
علي نور الدين – اساس