أخبار عربية – مقالات
زينة منصور
يستلم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن من سلفه دونالد ترمب واقعاً أميركياً مختلفاً عن حقبة رئاسة أوباما 2016 إذ أرسى سلفه سياسات قد يسهل نقدها ويصعب نقضها. تغيرت الولايات المتحدة منذ جائحة “كوفيد-19” كما تغير العالم. يختلف الرئيسان بوضوح حول المارد الصيني وتهديداته المتصاعدة للسيطرة على الولايات المتحدة والكوكب كله اقتصادياً عسكرياً وسياسياً، ما يُترجم بتباينات في السياسة الخارجية بين الإدارتين الجمهورية والديمقراطية. فالنموذج الصيني القائم على “إسرق – قلِّد -واحتلّ مكان الأصيل” أصبح واقعاً سياسياً بعد أن كان مجرد استراتيجية اقتصادية لغزو أسواق العالم.
تدمير اقتصادات العالم لاحتلاله
يعتبر جون راتكليف، مدير المخابرات الوطنية الذي يقدم التقرير الاستخباراتي اليومي للرئيس ترمب، أن “الصين تشكل الخطر الأول على الأمن القومي الأميركي وعلى حلفاء الولايات المتحدة، وهي أكبر تهديد للحرية والديمقراطية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية”. تؤكد المعلومات الاستخبارية الأميركية قاطعة أن “هناك مساعي صينية للسيطرة على كوكب الأرض، وبأن الصين تنتهج سياسات عدائية اقتصادية عبر تدمير اقتصادات الدول المستوردة لمنتوجاتها وإغراقها وتحويلها إلى دول كسولة فاشلة اتكالية غير منتجة”.
اطلع ترمب على تقارير تعتبر أن إغراق أسواق بلاده بالبضائع الصينية قد ألحق أضراراً بمكانتها الاقتصادية، موقعاً إياها بالعجز تجاه سياسة الإغراق وأضعف الصناعة والتجارة الأميركيتين. بالمقابل يخالف بايدن سلفه في موقفه من الصين، ويعتبر أن فرض الضرائب الجمركية على البضائع الصينية أضر بالمستهلك الأميركي.
يؤمن ترمب بخطورة احتلال الصين للسوق الأميركي. ويعتقد أن عجر ميزان بلاده التجاري تجاه الصين يسمح للأخيرة باحتلال إحدى أكبر وأغنى الأسواق الاستهلاكية في العالم. وكان قد أدلى بعدة مواقف خاطب فيها الأميركيين قائلاً: “إن إغراق الأسواق الأميركية بالبضائع الصينية يشكل خطراً يعلو على الخطر الروسي لأنه يتيح للصين فرصة قيادة العالم اقتصادياً”.
يرفض ترمب هذا “الاختلال – الاحتلال الاقتصادي” في الميزان التجاري الأميركي – الصيني ويعتبره “كارثة” يتوجب إيقافها. وهنا يقع على عاتق الرئيس المقبل بايدن التعاطي بمسؤولية مع موقف سلفه، بما يتجاوز كيديات الحزبين المتنافسين وعدم تعبيد الطريق للتغوَل الصيني الاقتصادي في الاقتصاد الأميركي.
أمن الممرات المائية
تبقى قوة الولايات المتحدة الجيو-إسترتيجية تتجاوز الصراع الاقتصادي التي تتقدم به الصين على القطب الأميركي. فيتفاعل الصراع الثنائي حول أمن ممرات المائية والطرقات البحرية للتجارة الدولية، وفي مقدمتها أمن بحر الصين الجنوبي الذي يقع تحت السيطرة الأميركية وضمن الأمن الاستراتيجي الأميركي. تستمر الولايات المتحدة بفرض يد أمنية ثقيلة على الممرات التجارية البحرية للصين ومن ضمنها بحر الصين الجنوبي – الممر الإلزامي لصادراتها. وهذا ما ثبته ترمب خلال ولايته ويكون بذلك قد حافظ على إخضاع اقتصاد الصين للقبضة الأميركية بكل ما يتعلق بأمن البحار والمحيطات. يقف بايدن من مسالة الممرات البحرية التجارية موقفاً أكثر ليونة، ما قد يوحي بأن القرار سيُترك لوزارة الدفاع دون قدرته على الإطاحة بما أرساه ترمب.
الجدار الأميركي للطموح الصيني
طوال حملته الرئاسية لم يتهم جو بايدن الصين بتوريط العالم بفيروس “كوفيد-19”. ولم يربط بين أزمة الكساد العالمي الكبير أو الركود الاقتصادي الناتج عن الوباء وأي مسؤولية أخلاقية للصين، وبقي صامتاً، في وقت أطلق منافسه على الوباء صفة الفيروس الصيني. وفي الملفات الآسيوية المتنازع عليها، تقف واشنطن جداراً مانعاً لكل الطموحات الصينية المتعلقة بضم تايوان. وينسجم موقف بايدن مع الحزب الديمقراطي بالتمسك بقضيتي هونغ كونغ ومسلمي الإيغور.
روسيا والصراع الأميركي-الصيني
تسعى روسيا إلى قضم جزء من دور جارتها الصين بينما تسعى الصين إلى احتلال مكانة الولايات المتحدة وإبقاء روسيا في دور خلفي. يؤمن ترمب بأن الصين تمثل الخطر رقم 1 على الولايات المتحدة ويشاركه بذلك شرائح من الأميركيين. وبالمقابل يختلف بايدن في الرؤية الاستراتيجية، إذ يقنع الأميركيين بأن الخطر الروسي على القطبية الأحادية الأميركية يتجاوز الخطر الصيني. إلا أن الاقتصاد في زمن العولمة يقود العالم، وبموجب هذه المعادلة تتقدم الصين على الاقتصادين الأميركي والروسي ويتجاوز خطرها كل ما يمكن أن تشكله روسيا من خطر. تتحدى الصين الولايات المتحدة اقتصادياً وترمب في طليعة الرؤساء الذين واجهوا المتغيرات العالمية لانعكاسات العولمة الاقتصادية على بلاده. وأعاد ترتيب أعداء أميركا بتأخير روسيا وتقديم الصين.
الطموح الروسي والصيني
تختلف استراتيجية الصين تجاه الولايات المتحدة عن روسيا. تتحدى الصين القطب الأميركي عبر سعيها للسيطرة الاقتصادية بينما تسعى روسيا إلى السيطرة على مناطق الهيمنة والنفوذ الدولية. وقد تجلى ذلك بالصراع الروسي – الأميركي في جزيرة القرم. تثير الصين المتاعب في وجه العالم وفي وجه الولايات المتحدة وذلك يحصل بمعزل عن تغييرات تطال الإدارات الأميركية المتعاقبة. تغيرت نظرة الأميركيين إلى الصين نحو السلبية تجاه الدور الاقتصادي الصيني الذي بات يراه الأميركيون خطراً على بلادهم.
ثغرات رؤية بايدن
تنطوي رؤية بايدن للصين على ثغرات عدة قد تجلب له المتاعب والمفاجآت خلال إدارته إذا لم يتم استدراكها من قبل وزارة الدفاع ومجلس الشيوخ. فهو ظهر في حملته الانتخابية محاولاً إقناع الأميركيين بأن الخطر الروسي يعلو على الخطر الصيني. يتوقف تحجيم الصين على قدرة بايدن في حشد محور دولي يتألف من كل من روسيا وكوريا لمواجهة التغول الصيني. وتجدر الإشارة أن وزير الخارجية القادم أنتوني بلينكن هو من الشخصيات المعادية لروسيا وهو من هندس العقوبات عليها إثر احتلالها جزيرة القرم عام 2014. ينتمي بلينكن المولود في نيويورك 1962 لعائلة يهودية من كييف. هرب جده مائير بلنكن أثناء حقبة الإمبراطورية الروسية إلى الولايات المتحدة وينظر نظرة سلبية للدور الروسي.
نيكسون – بايدن – الصين
الرئيس بايدن ليس الرئيس الأميركي الأول في واشنطن الذي يعتبر أن الخطر الروسي على بلاده أكبر من الخطر الصيني. فقد سبقه الرئيس ريتشارد نيكسون بنفس المقاربة الأميركية – الآسيوية، إذ التقى ماوتسي تونغ عام 1972 في لقاء تاريخي كان الأول بعد انقطاع العلاقات لأكثر من عقدين. كان هدف نيكسون عزل الصين عن روسيا لتسهيل التحكم بالاثنين، انطلاقاً من الإيمان بالفكر الاستراتيجي لهنري كسينجر حول نظرية عزلهما عن بعضهما، ولقد نجح نيكسون بذلك.
تشوب رؤية بايدن “الجيو-سياسية” ثغرات تجاه الصين ما سيخلق لديه مشكلة من خلال تخفيف خطر الصين وتعظيم الخطر الروسي وهي رؤية تتناقض مع الرؤية الاستراتيجية لكسينجر. وهنا تكمن النظرة غير الواقعية التي ستوقعه بمشاكل تتدخل على أثرها وزارة الدفاع بالكلمة الفصل ضمن الإدارة العميقة.
احتلال الكونغرس الأميركي
لا تكتفي الصين بتوسيع نفوذها الاقتصادي بل تسعى علناً للسيطرة على القرار السياسي في الولايات المتحدة من داخلها من خلال شراء الشركات الأميركية الكبرى داخل السوق الأميركية. وبذلك يصبح مئات آلاف الأميركيين موظفين لدى الشركات الصينية، ما سيجعلهم يضغطون على الكونغرس لإصدار قوانين تخدم مصالح الصين وشركاتها. ما يخلق خشية أن يصبح الكونغرس نفسه خاضعاً للنفوذ الصيني ما لم يتم وضع حد للنفوذ الصيني الاقتصادي التوسعي.
ليس من السهل الحكم على أن محاولات الصين في جر العالم إلى نظامها الاقتصادي المختلط الشيوعي – الرأسمالي سيبوء بالفشل بمجرد الارتكاز إلى أن الرأسمالية هزمت الشيوعية في الاتحاد السوفياتي عام 1989. تهدف الصين إلى احتلال الاقتصاد العالمي ما سيؤدي إلى اختلال ينتج عنه احتلال المكانة الأميركة الاقتصادية على رأس اقتصادات العولمة. وهي تستعد لمواجهة طويلة مع الولايات المتحدة.
الصراع الصامت والطويل
لا شك أن الصراع الصيني الأميركي الصامت والمعلن يضع العالم أمام خيار حتمي، يصفه بومبيو بأنه خيار بين الحرية والطغيان. ولم يخالفه وزير الخارجية القادم أنتوني بلينكن إذ قال كلاماً مشابهاً. من الممكن أن تختلف الوسائل في مواجهة الصين بين الإدارة الديمقراطية والجمهورية لكن النخب القيادية في الحزبين تؤمن بضرورة قطع الطريق على تقدم الصين وإلا سيدخل العالم مرحلة ظلامية تشبه الوضع الصيني الداخلي وتعتبر أن المواجهة إما أن تكون الآن أو لن تكون.
الأوهام الأميركية
تمتلك الصين استراتيجية سرية تهدف إلى أن تحل مكان الأحادية القطبية الأميركية عام 2049. يؤمن الصينيون أنهم عاشوا قرناً من الإذلال منذ عام 1848 وحتى عام 1949. ويعتقدون أنهم عام 2049 سيسترجعون مكانتهم الطبيعية ليفرضوا أنفسهم القوة العظمى الأولى في العالم. تتبع الصين التكتيك الصيني القديم في الحروب وهي أن تهزم عدوك قبل أن يعرف أنه قد دخل في حرب معك. وهي تستخدم الدهاء والمكر لتنفيذ هذه الخطة فهي تؤكد دائماً للأميركيين على جهودها ومساعيها من أجل الصعود الاقتصادي السلمي العالمي على قاعدة التعايش مع القطبية الأميركية. إلا أن النخب الأميركية المفكرة تعتقد أنه لا يمكن الصعود الاقتصادي سلمياً واحتلال موقع الولايات المتحدة.
يقول المفكر الاستراتيجي مايكل بيلسبوري إن الاميركيين يعيشون ثلاثة أوهام. الوهم الأول يكمن في إمكانية التعايش مع الصين بوصفها قوة خير اقتصادية لا تشكل خطراً على الغرب. الوهم الثاني يكمن في اعتقادهم أنه بإمكانهم جذب الصين كي تتبنى قيم الحضارة الغربية. والوهم الثالث يكمن في إمكانية تغيير الذهنية الصينية التي تؤمن أن الشمس صينية والأرض صينية وحاكم العالم هو الإمبراطور الصيني.