أخبار عربية – مقالات
زينة منصور
تتخذ المؤسسات المتجذرة في الدولة العميقة في الولايات المتحدة كل القرارات المتصلة بالأمن الاستراتيجي والسياسة الخارجية وكل رئيس ينفذ هذه القرارات بأسلوبه. وتبقى الفوارق في الأداء والإخراج بين رئيس وآخر. في 20 يناير 2021 يتولى الرئيس الأميركي المقبل جوزيف بايدن الإدارة الجديدة لملف الشرق الأوسط في ظل التحولات التي طرأت على الظروف السياسية، في كل من الولايات المتحدة والدول العربية وإيران وتركيا، والتي شهدت كل منها موجات من الاهتزاز الداخلي، سواء على الصعيد الأميركي مع التوتر العرقي والطبقي، أو على المستوى العربي من خلال موجة الاضطرابات الحاصلة منذ عام 2011 تاريخ انطلاق ما يسمى الربيع العربي الذي تحول إلى خريف شتوي.
تغيرت الظروف السياسية الشرق أوسطية واختلفت اختلافاً جذرياً خلال السنوات الخمس الماضية 2016-2020 مع اختلاف إدارة ترمب عن إدارة أوباما – بايدن (2009-2016). يواجه جو بايدن تحديات متصلة بالسياسة الخارجية مع دول الشرق الأوسط من إيران إلى تركيا والخليج العربي والشرق الأدنى وملف الصراع العربي الإسرائيلي. وتبقى كيفية التصدي للملفات العالقة وآلية معالجتها محور الاهتمام إلى حين تبلور منهجية عمل إدارته.
يمكن استقراء سياسة بايدن تجاه الشرق الأوسط من خلال ثلاثة أبعاد متصلة بمساره السياسي. البعد الأول مواقفه المعلنة من أزمات الشرق الأوسط، البعد الثاني معرفة قناعاته السياسية واتجاهاته الفكرية والبعد الثالث دراسة المحددات التي تؤثر على قرارته. إذ ينشغل العالم باستقراء ملامح السياسة الخارجية لإدارته متناسين أن كل أرائه السياسية معلنة منذ نصف قرن في كتب وإطلالات وحملات انتخابية.
لذلك يعتبر بايدن كتاباً مفتوحاً أمام المجتمع الأميركي فهو من داخل “الاستابلشمنت” الذي أتى ترمب من خارجها. وهو السياسي المخضرم (مواليد 1942) من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) الذي يؤمن بقيادة أميركا للنظام العالمي الجديد وبحماية شبكة علاقاتها الدولية ودورها في تمكين ودعم الحلفاء والأصدقاء واحتواء وتطويق الأعداء. خاض بايدن عام 2020 للمرة الثالثة الثابتة تجربة الترشح للرئاسة بعد أن سبق وترشح في المرة الأولى عام 1988 وفي المرة الثانية عام 2008 حتى حالفه الحظ أخيراً. فاز بايدن عام 1972 بعضوية مجلس الشيوخ وترأس لجنة الشؤون الخارجية وتولى منصب نائب الرئيس لمدة 8 سنوات خلال عهد أوباما وحتى وصوله إلى البيت الأبيض في 3 نوفمبر 2020 أي بعد مضي 50 سنة على بداية حياته السياسية.
يمكن رصد ثلاث مواقف واضحة للرئيس الأميركي المقبل من ثلاثة قضايا متصلة بالشرق الأوسط وهي الملف الإيراني والعقوبات على تركيا وانتقاداته للسعودية. بالإجمال كان الشرق الأوسط ضعيف الحضور على سلم أولياته في مقاربته للسياسة الخارجية لأنه ركز على محور الصين وروسيا الذي يستحوذ على اهتمام الأميركيين وعلى تحديات فيروس كورونا الاقتصادية والصحية والقضايا الداخلية. ولم تحظَ العراق وسوريا باهتمامه برغم وجود جنود أميركيين فيهما.
تمايز بايدن بنظرته للعلاقات مع إيران عن ترمب ورفض سياسة العقوبات عليها إلا أن ذلك لا يعني أنه محب لها بل يتبنى منهجية الاحتواء بدل العداء والالتزام مقابل الإلزام. فتعهد في برنامجه الانتخابي بأنه سوف يعيد تفعيل الاتفاق النووي بكل بنوده وعارض انسحاب ترمب منه عام 2018 بعد أن وقعه أوباما عام 2015. كما تبنى سياسة الالتزام مع إيران مقابل إلزامها الكلي بالالتزام بشروط الاتفاق النووي. يعتبر بايدن أن إيران أحد مصادر الاضطرابات واللااستقرار في الشرق الأوسط وأنه من الصعب تجاهل دولة بحجمها وأن أفضل طريقة لاحتوائها عبر إشراكها في الترتيبات السياسية والأمنية.
اتسمت علاقة بايدن بالرئيس التركي أردوغان بالتوتر منذ عام 2015. فهو أحد أبرز الداعين لدعم المعارضة التركية لإسقاطه وسبق أن وصفه بالديكتاتور ما أثار غضب الأتراك حين كان نائياً للرئيس ما أضطره للتراجع عن كلامه، كما وصفه خلال حملته الانتخابية الأخيرة بالديكتاتور المفضل لدى ترمب. بعد شرائها صواريخ روسية دعا بايدن إلى فرض عقوبات على تركيا، معتبراً أن أي دولة تشتري السلاح من روسيا يجب إخضاعها لعقوبات تحت سقف القانون الأميركي. واتهم تركيا بتمويل ودعم “داعش”، معبراً عن رفضه للخطوتين ومتعهداً بالعقوبات. وكان ترمب قد عطل صدور قرار الكونغرس بفرض العقوبات مستنداً إلى ان تركيا لم تستخدم الصواريخ الروسية بل اكتفت بتجربتها.
من بين الدول الشرق الأوسطية التي انتقدها بشكل علني هي السعودية، إذ أعلن أنه سيعيد النظر بكل السياسات الخارجية مع الرياض، وتعهد بأنه لن يسمح ببيعها مزيداً من الأسلحة. وذكر أن السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط يجب أن تصنع في واشنطن وليس في الرياض. وعارض حرب اليمن ودعا إلى وقفها. هاجم ملف حقوق الإنسان في المملكة، موجهاً أسهم انتقاداته بعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
يراقب الرأي العام العربي تعاطي بايدن مع التنظيمات الإسلامية الراديكالية والمسلحة. هناك تيار فكري يعتقد بوجود تحالف بين الحزب الديمقراطي وتنظيم “الإخوان المسلمين” وذلك بالاستناد إلى السياسة الخارجية الأميركية إبان بداية مرحلة الربيع العربي (2011- 2013) وبناء عليه تستشرف بعض الدوائر الفكرية أنه سيدعم “الإخوان المسلمين” ولن يكون متشدداً تجاه التنظيمات الإسلامية الراديكالية والمسلحة كسلفه ترمب.
عكسَ بايدن اعتراضات كثيرة على أكثر من دولة في الشرق الأوسط وشملت اعتراضاته مصر والسعودية وتركيا التي اتهمها بكونها الداعم الأكبر لـ”الإخوان المسلمين”. وهو يدرك بخبرته السياسية وجود تيارات فكرية متعددة داخل الحزب الديمقراطي، ويعلم أن هذه التيارات لديها قناعات تختلف عن قناعة المحافظين من الحزب الجمهوري. لذلك يسعى لإرضاء الديمقراطيين من الأميركيين بتنوعهم من خلال مهاجمة الأنظمة التي يعتقدون أنها غير ديمقراطية.
تشير المعطيات ومساره السياسي أنه سيكون رئيساً يسعى لإرساء احترام الرئاسة الأميركية ومكانة أميركا في العالم, وسيظهر احترامه للحلفاء وسيضبط خلافاته مع الأعداء وسيظهر احترام أكبر للإعلام بصفته الذراع المركزي للديمقراطية الأميركية والعولمة. ويتوقع المراقبون أن تكون تصريحاته منضبطة غير مستفزة للحلفاء والخصوم وبعيدة عن افتعال الخلافات في العالم.
سادت بين غالبية رؤساء الولايات المتحدة سواء عكسوا رؤية الحزب الديمقراطي أو الجمهوري تباينات في التفاصيل الداخلية والخارجية لكن جمعتهم قواسم مشتركة فاقت تبايناتهم. لذا يُعتبر بايدن امتداداً للإدارة العميقة التي حكمت أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن بعكس ترمب الذي أتى من خارج نادي الرؤساء الأميركيين.
يؤمن بايدن بسيادة العولمة الأميركية وبأهمية الحفاظ على النظام العالمي الجديد الذي أسسته وقادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أي النظام الرأسمالي واقتصاد العولمة والأسواق المفتوحة والتحالفات الدولية والصداقات والعداوات الواضحة. كما يؤمن بضرورة احتواء الأعداء والحفاظ على الحلفاء ودعمهم وتمكينهم في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط واحترام المؤسسات الدولية التي تدير النظام العالمي من صندوق النقد إلى البنك الدولي. وينادي بالعودة إلى الاتفاقات الدولية التي خرج منها ترمب أي اتفاق باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية والاتفاق النووي مع إيران.