أخبار عربية – مقالات
كريستابيل نجم
هـُويتي تائهة، أسقطُّها بعيدًا من هنا وأنا مارًا في تلك الوديان العامرة التّي تكسوها الأشجار، النباتات الحيّة والحيوانات الأليفة.
أنا إبن آدم الذي ولد منذ آلاف السنين بهويةٍ حقيقيةٍ ولكنّه فقدها الآن. لربّما كنت مسيحيًا، مسلمًا أو درزيًا وولدت من عائلةٍ غنيةٍ إمّا فقيرةٍ لكنّني لا أذكر أيًّا من تلك التّفاصيل.
أكنت أنتمي إلى شمال لبنان أو جنوبه؟ أنا لا أعرف. أمي، أبي، أجدادي وإخوتي، أمتلكت عائلةً يومًا ما؟ أكانت هذه الأسرة تنتعشُ بالحنيةِ أم محقونةً بالعدائية؟ أكانت متعددةَ الأجناس أم متشبثةً بدينٍ واحدٍ وجنسيةٍ واحدة؟
أنا الآن وحيدٌ وعقلي مشتتٌ يتلاشى ما بين النسيان والتناسي. يفوقُ ذاكرتي الخيال البنّاء، فتلك الوديان التّي أوقعت هويتي داخلها في مكان ما حتمًا، كانت تتلذّذ سابقًا بالحياة والأبنية التّي يسكنها أفرادٌ من مختلف الأديان والطوائف فأصوات قهقهاتهم كانت الأكثرَ صدقًا على عيشهم المشترك.
ضللتُ طريقي فسرتُ نحو شارعٍ مضيئٍ عامِرٍ بالضّجيج المثمر لا المزّيف حيث أخذ البعضُ يرحّب بي والبعضُ الآخر يبتسم لي ابتسامة الإستقبال رغم أنّني غريبٌ عنهم. عيناي رأت كلًّا منهم يحمل بشرةً بلونٍ مختلفٍ وثيابًا مرونقةً متأججة، بعضهم كان يرسمُ إشارة الصليب على جبينه والبعضُ الآخر كاد يركعُ ويصلّي ومن ثمّ يقف متأهبًا.
أخذوا يراقبون بعضهم بعضًا عن كسبٍ وكأنّهم أبناءَ وطنٍ واحدٍ وعائلةٍ متساويةٍ تحمي أنفسها بتأن، بمحبةٍ وإخلاص، تحتضنُ الغريبَ وكأنّه فردٌ من أفرادها دون أيّ عنصريةٍ ولا تميّيز فلا تحكمُ عليه مسبقًا بسبب مظهره الخارجيّ الذي يعبّر في بعض الأحيان عن هويةٍ مزيفةٍ له.
أنا مواطنٌ لبناني، أضاعَ هويتَه وهو مارًا في تلك الوديان الشّائعة التّي كانت تتمتّع بحياةٍ سلميةٍ دافئةٍ ولكنّ الحربَ دمرّت أطيافها فقتلت شعبَها وأطفالها وسلبت حياتهم منهم.
أنا مواطنٌ لبنانيّ شارك أبناءَ طائفته الحربَ معتقدًا بأنّ السلم َوالحياةَ الأبدية هي إعلانُ النّزاع والفتن لقتل أبناءَ الوطنِ من الأديان الأخرى. خسرتُ نفسي وعائلتي، أضحيتُ أراقبُ جهنمَ من تحت قدميَّ وأغسلُ وجهي بدماءِ أشخاصٍ بريئين أرادوا العيشَ بطمأنينةٍ ولكنّني ومن قاتلَ معي أريناهم حقدَ البشرِ والجنون الحتميّ وبادرناهم الذلّ والتهجير.
أنا محاربٌ سابقٌ دخلتُ هذا الشارعَ دون خوفٍ أو تردّد وبادرتُ أفرادَه بإلقاءِ التّحية عليهم أيضًا، جلستُ إلى جانبهم أضحكَ من شدّة الوهلةِ فلم آبهْ لهويتّي الضّائعة فسبقَ أن عرَّفتهم عن نفسي وأنا آتٍ وكأنّني ولدتُ من جديدٍ ودخلتُ أبوابَ الجّنة والحياة الأبدية.
أنا مواطنٌ لبنانيٌّ عشقتُ أبناءَ وطني بلحظةٍ فبادروني المحبةَ والأُلفة معًا. أنا محاربٌ قديم، أعيدُ وأكرّرُ بأنّ السياسةَ والطائفيةَ شواذٌ مدينٌ غير مرحبٍ بهما ما بين أفرادِ المجتمعِ الواحدِ والأمةِ الواحدة. نحن سويةٌ نجتازُ انحلالَ البلادِ من العدم، من الحرب، العجز والكراهية وسويًا نتشاركُ السّلام والسّلم الأهليّ دون أيّ نزاع أو فتنة.