أخبار عربية – بيروت
إحراق محال تجارية في مينيابوليس، قطع طرقات في لوس أنجلوس، اشتباكات في نيويورك، وتظاهرات حاشدة في واشنطن قرب البيت الأبيض.. هذه ليست مقتطفات من أحد أفلام هوليوود، إنما أحداث حقيقية شهدتها الولايات المتحدة عام 2020.
بداية “الكابوس” كانت يوم 25 مايو الماضي، عندما انتشر مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، أثار غضب الآلاف، حيث يظهر فيه مواطن أميركي من أصل أفريقي يدعى “جورج فلويد” وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعدما تعرض لمعاملة عنيفة من قبل شرطي أبيض البشرة في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا.
وأظهرت اللقطات المروعة، الشرطي وهو يجثم بركبته فوق رقبة فلويد، الذي كان مستلقياً على الأرض يستعطف رجل إنفاذ القانون من دون جدوى، قائلاً: “من فضلك من فضلك، لا أستطيع التنفس”، حتى توفي لاحقاً.
“لا أستطيع التنفس”
وما إن انتشر الفيديو، حتى خرجت احتجاجات حاشدة في مدينة منيابوليس، حملت في معظمها شعار “لا أستطيع التنفس”، وهي آخر جملة قالها فلويد قبل مفارقة الحياة.
الاحتجاجات سرعان ما توسعت، لتشمل في فترة قصيرة أكثر من 30 مدينة أميركية، بينها نيويورك ولوس أنجلوس والعاصمة واشنطن.
لكن تلك الاحتجاجات لم تحافظ على سلميتها، وبدأت تتحول إلى أعمال عنف وتخريب في العديد من الولايات الأميركية.
“الإرهاب المحلي”
ووُجهت أصابع الاتهام إلى جماعة “أنتيفا” بالوقوف وراء أعمال الشغب والعنف والنهب الذي شهدته عدة مناطق من البلاد، الأمر الذي دفع الرئيس دونالد ترمب إلى تصنيف الحركة اليسارية كمنظمة إرهابية محلية.
وأعاد ذلك الضوء مجدداً على مصطلح “الإرهاب المحلي” في الولايات المتحدة، وهي عبارة تطلق على الجماعات التي تستخدم القوة والعنف بصورة غير قانونية من أجل تحقيق أهداف سياسية أو أجتماعية.
ومن أبرز تلك الجماعات التي وصفت بعض أعمالها بأنها “إرهاباً محلياً”، جماعة “كو كلوكس كلان” التي تؤمن بالأهلانية والتفوق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية، بالإضافة إلى كراهية المثلية.
إنهاء “وحشية الشرطة”
ويأتي تصنيف “أنتيفا” منظمة إرهابية وسط احتجاجات عنيفة تعم البلاد رفضاً لوحشية الشرطة، التي يأمل المتظاهرين أن تؤدي وفاة جورج فلويد إلى إنهائها.
ويسعى أعضاء بالكونغرس للانتهاء من تفاصيل مشروع قانون لـ”إصلاح الشرطة”.
ويتضمن مشروع القانون، الذي طرحه الديمقراطيون، بنوداً تجبر رجال الشرطة على تثبيت آلات تصوير على بدلاتهم، ومنعهم من استخدام أسلوب الإمساك بالعنق، وتسهيل مهمة مقاضاتهم.
بدوره، وصف الرئيس الأميركي فيديو خنق فلويد بأنه “شكل لي 8 دقائق من الرعب والعار”.
وأضاف ترمب في مقابلة لقناة “فوكس نيوز”، إنه يود أن يرى حظراً لاتباع الشرطة أسلوب الخنق في معظم الحالات، لكنه أشار إلى أن هذا الأسلوب يكون مفهوماً في بعض الحالات.
وتابع قائلاً: “لا أحب أسلوب الخنق، لكن أحياناً إذا كنت بمفردك وتتشاجر مع أحدهم فالأمر صعب (…) أعتقد أنه سيكون أمراً جيداً جداً في العموم أن ينتهي”.
العنصرية.. أزمة قديمة جديدة
يذكر أن العنصرية في الولايات المتحدة ليست ظاهرة جديدة أو أزمة طارئة في عهد دونالد ترمب كما يقول بعض الديمقراطيين، إنما تعود إلى عشرات السنين.
فقبل نحو 28 عاماً، كانت أميركا على موعد مع موجة عنف وأحداث شغب اجتاحت مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، وانتهت بسقوط آلاف القتلى والجرحى وخسائر مادية بلغت أرقاماً خيالية.
وبطريقة مشابهة لحادثة مقتل جورج فلويد الشهر الماضي بمينيسوتا، التقطت عدسات الكاميرا حينها عملية تعنيف المواطن الأميركي ذي الأصول الإفريقية، رودني كينغ، من قبل مجموعة من رجال شرطة لوس أنجلوس.
وتزامناً مع تبرئة رجال الشرطة المتهمين بارتكاب الجريمة، اندلعت شرارة أعمال العنف التي كانت عواقبها وخيمة وتطلبت تدخل الجيش للسيطرة عليها.
إلى ذلك، شهدت فترة الثمانينيات تزايداً في نسب البطالة وارتفاعاً في مستوى تجارة المخدرات وأعمال العصابات والعنف بالأحياء الفقيرة بلوس أنجلوس.
وأمام هذا الوضع، ردت شرطة المدينة بقبضة من حديد في سعي منها لفرض الأمن واعتقال المطلوبين للعدالة لتتسبب في تزايد العداء بين الأمنيين والمدنيين بلوس أنجلوس، وقد تجسد ذلك من خلال مناوشات عديدة شهدتها تلك الفترة بين الطرفين وتسببت أحياناً في سقوط ضحايا.
ويوم 3 مارس 1991، كانت المنطقة على موعد مع حدث صعّد الأزمة بلوس أنجلوس. فعقب فراره من رجال الشرطة ومطاردته باستخدام السيارات، توقف رودني كينغ وسلم نفسه.
وتزامناً مع إلقاء القبض عليه، انهال رجال الشرطة ضرباً على هذا الرجل ذي الأصول الإفريقية وتسببوا له في كسور وإصابات بليغة عند مستوى الرأس واليدين.
وبمحض الصدفة، صوّر المواطن الأميركي جورج هوليداي المقيم بمنطقة ليك فيو أطوار حادثة الاعتداء على رودني كينغ ونقلها نحو إحدى القنوات المحلية، لينتشر بذلك فيديو الاعتداء ويثير موجة استياء وغضب بكامل أرجاء الولايات المتحدة.
يوم الخامس عشر من الشهر نفسه، اتهم أفراد الشرطة الذين ظهروا بالفيديو بممارسة العنف الجسدي ضد رودني كينغ وقد تزامن ذلك مع واقعة أخرى أثارت سخط ذوي الأصول الإفريقية بالمنطقة، حيث عمد صاحب متجر كوري لقتل فتاة من السود تدعى لاتاشا هارلينز، بعد اتهامها بالسرقة.
وخلال شهر نوفمبر من نفس السنة، أصدر القضاء عقوبة مخففة على صاحب المتجر الكوري مثيراً بذلك سخط ذوي الأصول الإفريقية بالمنطقة.
ويوم 29 أبريل 1992، صدر حكم ثان بتبرئة رجال الشرطة المتهمين بالاعتداء على رودني كينغ لتندلع على إثر ذلك احتجاجات سرعان ما تحولت لأعمال عنف ونهب طالت مرافق عديدة بلوس أنجلوس.
وبحسب ما نقل موقع “العربية.نت” عن مصادر تلك الفترة، هاجمت الجموع الغاضبة عدداً من السكان البيض والآسيويين وسحلوهم بالشوارع واتجهوا لإحراق العديد من المباني ونهبوا المتاجر، كما عمدوا لمهاجمة مركز الشرطة بباركر سانتر وأجبروا رجال الأمن على التراجع.
وخلال اليوم التالي الموافق للثلاثين من أبريل 1992، تعطلت المواصلات بلوس أنجلوس وأغلقت المدارس ومراكز البريد أبوابها بالتزامن مع إعلان حاكم كاليفورنيا حالة الطوارئ واستدعاء مزيد من القوات.
من جهة ثانية، افتقرت لوس أنجلوس بشكل تدريجي للمواد الأساسية واضطر الأهالي للانتظار ساعات للحصول على الطعام والمحروقات. فضلاً عن ذلك، تسلح أصحاب المتاجر الكورية بالبنادق وعمدوا خلال أكثر من مرة لإطلاق النار على الجماهير الغاضبة لحماية ممتلكاتهم.
وفي الأول من مايو 1992، ظهر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب على شاشة التلفاز فأدان حالة الفوضى وعنف رجال الشرطة تجاه المدنيين وأمر بإرسال الآلاف من قوات الحرس والجنود إلى لوس أنجلوس لإعادة الأمن إليها.
“أمر اعتيادي في الدول الديمقراطية”
وبحسب وليد فارس، المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، فإن ما يشاهده العالم اليوم على شاشات التلفزة العالمية في الولايات المتحدة هو أمر واقعي، مشدداً على أن البلاد تعيش أزمة لطالما كانت تعاني منها في علاقة رجال الشرطة مع فئة معينة من المجتمع.
ولفت فارس في مقابلة صحفية، الأسبوع الماضي، إلى أهمية دور الإعلام في نقل الصورة الحقيقية لما يحصل، بالإضافة إلى المطالب التي تنادي بها مختلف فئات المجتمع الأميركي، وليس فقط تسليط الضوء على مطالب فئة واحدة من المجتمع.
وقال: “ما يُزعج المواطن الأميركي اليوم ليس التظاهرات بحد ذاتها، فالتظاهرات أمر طبيعي في الدول الديمقراطية، ولكن ما نشهده من استمرار الإعتداءات على المحلات التجارية وعلى أمن المواطنين هو المهم”.
وتحدث فارس عن وجود ثلاثة مكونات أساسية للتحركات الشعبية في أميركا: “المكون الأول، وهو الأكبر، يضم المتظاهرين المحتجين على ما يحصل، وهم يطالبون بإصلاحات معينة، وهي ليست بجديدة (…) المكون الثاني، يتألف من مجموعات أنتيفا الذي يعتبر تنظيماً راديكالياً، ويعتبره البعض أنه من اليسار المتشدد (…) المكون الثالث، ويتألف من الأشخاص الذي يستفيدون من هكذا أوضاع غير مستقرة من أجل السرقة”.
واعتبر المستشار السابق للرئيس الأميركي من أصل لبناني، أن حادثة مقتل فلويد على يد شرطي أميركي في مينيابوليس لن تؤثر على وضع ترمب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.
استغلال إيران وتركيا
وكما جرت العادة مع كل حدث كبير في العالم، حاول نظاما تركيا وإيران استغلال الاحتجاجات في الولايات المتحدة للظهور بمظهر “الدفاع عن المظلومين”.
وقالت وزارة الخارجية الإيرانية إن طهران “أعربت عن الأسف لقتل السود في أميركا وتدين التمييز العنصري القاتل فيها وتطلب من المسؤولين الأميركيين تنفيذ العدالة في مثل أعمال القتل هذه”، حسب ما أوردته وكالة أنباء “إيرنا” الرسمية.
وأضافت الخارجية الإيرانية: “ينبغي سماع صوت المحتجين، لذا يتوجب إيقاف قمع الأميركيين المُضطهدين وقيود وسائل الإعلام سريعاً”.
من جهته، قدم الرئيس التركي رجب طيب أروغان في تغريدة على حسابه في “تويتر”، تعازيه لأسرة جورج فلويد، معتبراً أن الحادثة “غير إنسانية” وأن “النهج العنصري والفاشي تسبب في وفاته”.
وذهب أردوغان أبعد من ذلك في استغلال القضية لمصالحه الخاصة، حيث قال في اتصال هاتفي مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، أن من يقفون وراء أعمال الشغب في الولايات المتحدة على صلة بالوحدات الكردية بشمال سوريا، في تصريح أثار سخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولطالما عانت المنطقة العربية من تدخلات أنقرة وطهران في الأزمات الداخلية للدول، لا سيما بعد اندلاع احتجاجات “الربيع العربي” عام 2011.
“لا أوجه شبه مع الربيع العربي”
استغلال أزمة فلويد لم يقتصر على تركيا وإيران، إنما يظهر بشكل واضح في العالم الغربي الذي يرى أن سياسة الإدارة الأميركية تتصادم مع بعض مصالح الدول في العديد من الأماكن، ومن أمهما في منطقة الشرق الإوسط، حسبما يرى الإعلامي والباحث السعودي المطلع على الشأن الأميركي، عبدالله البراق، في حديث لموقع “أخبار عربية”.
وقامت تلك الدول، بحسب البراق، بتحريك أجنداتها في المنطقة كما نشاهد في سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان، إضافة إلى المحاولات البائسة في مواقع أخرى، ومن أهم هذه الأجندات النظام الإيراني وجماعات الإسلام السياسي كجماعة “الإخوان المسلمين” وغيرها من جماعات الإسلام السياسي الإرهابية كتنظيمات “القاعدة” و”داعش” و”حزب الله” وغيرها.
من جهة أخرى، تأييد تحركات النظام التركي التخريبية في المنطقة والتي تزيد المنطقة توتراً والتهاباً وتخريباً، لفتح منافذ تخريبية لدول عربية كبرى تعد صماماً للأمن القومي العربي كمصر.
وأضاف البراق إنه “لا يخفى أن سياسة إدراة ترمب عطلت وأخرت الكثير من هذه الخطوات التخريبية”.
واستبعد الباحث السعودي المطلع على الشأن الأميركي أن تؤثر الأحداث التي تشهدها الولايات المتحدة سلبياً على ترمب في الانتخابات المقبلة، “فهناك من الملفات ذات الأهمية التي ترجح بقاء ترمب في الرئاسة كالملف الاقتصادي والذي اصبح شبه مرتبطاً بسياسة إدارة ترمب، وكذلك الملف السياسي الذي له تأثير في مجريات الاقتصاد الأميركي”.
وأكد البراق أن تشبيه أحداث الولايات المتحدة بما يسمى “الربيع العربي” لا يتطابق أبداً، لأن “الربيع العربي” أسس على تغيير جذري في إدارة الدستور وتقسيم الدول إلى دويلات، أما ما يمر في الولايات المتحدة عبارة عن ردة فعل تم استغلالها وتأجيجها من دول تسعى لتغيير السياسة الأميركية الخارجية ولا علاقة لها بما يحدث داخلها.
وختم قائلاً إن “ما تمر به الولايات المتحدة الأميركية سيجبرها باستمرار سياسة ترمب الخارجية ذات التأثير الداخلي المباشر مهما كان حجم التظاهرات ومهما كان حجم الحرب الإعلامية التي يواجهها”.