أخبار عربية – بيروت
كتبت الصحافية اللبنانية زينة منصور:
تشهد الجمهورية اللبنانية انهياراً اقتصادياً هو الثالث من نوعه في التاريخ الحديث لحدته وآثاره السلبية، وذلك منذ الأزمة المالية في ستينات القرن الماضي على إثر انهيار بنك “إنترا” وعشرين مصرفاً آخر يدورون في فلكه. ومن ثم الأزمة الثانية الأعتى كانت المضاربة على الدولار التي امتدت منذ الثمانينات وما رافقها من انهيار الليرة التي كانت تعادل 3 ليرات للدولار الواحد واستمرت إلى ما بعد الحرب حتى عام 1993.
الانهيار الاقتصادي الثالث هو الحالي. ويكاد يكون الأصعب لأنه يترافق مع دين عام داخلي وخارجي تجاوز عتبة الـ100مليار دولار، وإعلان غير رسمي لإفلاس مصرفي، وإفراغ الخزينة وسرقة وتبديد الأموال الخاصة والعامة، وتهريبها للخارج دون أي محاسبة. كل هذه العوامل ألهبت انتفاضة اللبنانيين وثورتهم على سلطة سياسية عاثت فساداً وتدميراً بمقدرات الدولة والشعب.
برغم فداحة النكبة الاقتصادية، تبقى الحلول متاحة بإجراء “إصلاح اقتصادي” جذري يترافق مع “إصلاح سياسي” بنيوي. ويتوسط الإصلاحيين “إصلاح مصرفي” حتمي.
إن إعادة الروح إلى الاقتصاد مرتبط بـ”إصلاحات سياسية” ما زالت السلطة متخاذلة وخائفة ومترددة من الإقدام عليها لاعتبارات تتعلق بنظرية “الدومينو إفكت”. إن سقوط “الهيكل السياسي” سيؤدي إلى سقوط الهيكل برمته الذي حكم لبنان منذ 1990، ما بعد التعديلات الدستورية الشهيرة باتفاف الطائف، وما نتج عنه من سوء تطبيق وتجاوزات واستنسابيات مطاطة لصالح الطائفيات السياسية، ودخول البلد في نفق من الأزمات عطّل وشلّ الاقتصاد لسنوات، وأضعف الإنتاجية، وقضى على آلية عمل المؤسسات، وحمّل أعباء للخزينة، وأفلت وأخرج وزارات المالية والطاقة والأشغال والاتصالات والمجالس والصناديق مع بقية الوزارات والمرافق عن الرقابة والمحاسبة والشفافية لكل من توالى عليهم.
يدفع اللبنانيون أثماناً لخطاياهم وخطايا من ولّوهم الأحكام، حتى جاءت انتفاضة 17 أكتوبر 2019 بثورة على الذات الجماعية، المرتهنة والمسلوبة طائفياً وحزبياً ومالياً بعناوين جوفاء، أوصلت اللبنانيين إلى حضيض الدولة والعيش الكريم.
إن “إعادة هيكلة الدولة والمؤسسات” هي الخطوة المنشودة من قبل المواطنين المنتفضين للوصول إلى الإصلاح الاقتصادي والسياسي والمالي، وهو ما تحاول اجتنابه الحكومة الحالية في خطتها الإنقاذية على مائدة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
إن هذه “الهيكلة الدولاتية” تتمحور حول إعادة “هيكلة الطبقة السياسية “، التي تستأثر بإدارة المرافق العامة والمتهمة بالفشل والفساد الإداري، عبر إنتاج هيكلية جديدة من حكومة وبرلمان ورئاسة تضع رؤية جديدة ومرحلة إعادة نهوض لبنان 2020-2030، على مخطط ثلاثي يتحقق كل 3 سنوات جزءاً منه لإنجاز التحولات الاقتصادية لجهة الإصلاح الاقتصادي والمصرفي وخفض حجم القطاعين العام والمصرفي والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى المنتج.
ما بين الإصلاحيين السياسي والاقتصادي، يتوسط حجر الرحى “الاصلاح النقدي” الذي يقوم على:
1- حماية الليرة ومنع المضاربة ضمانةً لحماية العيش الكريم والأمن الغذىائي في ظل نمو سلبي وبطالة 60% وتضخم اقتصادي وغلاء وذوبان الرواتب بنسبة 70% وتجاوز الدولار عتبة الـ4000 ليرة في سعر غير رسمي.
2- تحميل القطاع المصرفي جزءاً من الدين الداخلي عبر الاقتطاع من أرباح المصارف من عملية الفوائد على الإقراض الداخلي واسترجاع الأموال المهربة والمنهوبة.
3- خفض الفائدة إلى أدنى مستوياتها لتنشيط الاستثمار الداخلي وإعادة الثقة المحلية والدولية.
بالمحصلة، وقع اللبنانيون في فخ اقتصادي نُصب لهم على أيدي حكومات وبرلمانات ورئاسات تعاقبت منذ عام 1993 وحتى 2020، وارتكبت أخطاءً وفساداً وإهداراً دون مساءلة بغطاء الحزبية والزبائنية والخطوط الحمراء الطائفية. وذلك ضمن حقبتين سياسيتين: الأولى تحت الهيمنة السورية والثانية تحت سيطرة “حزب الله”. ما أدى إلى أن يعيش لبنان 27 عاماً من الازدهار الوهمي والتورم السياسي والمالي والفشل تلو الفشل في ظل إنتاجية معدومة، وديون متراكمة ومؤسسات مشلولة وفوائد عالية وإدارة فاسدة وسلسلة أخطاء أوصلت الاقتصاد إلى الانهيار.
1- الخطأ الأول الذي عمّق الفخ الاقتصادي كان سياسة الفوائد المرتفعة المعتمدة من البنوك التجارية لاجتذاب الودائع بالدولار، وإيداعها بالبنك المركزي ما سهل الإقراض الداخلي.
2- الهندسات المالية التي بدأت عام 2016 والتي عوّمت أرباح البنوك المملوكة من السياسيين على حساب المالية العامة، وتوقف الدولار النفطي لأسباب سياسية متعلقة بـ”حزب الله” وانخفاض الدولار الاغترابي بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي.
3- إقرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 لموظفي القطاع العام دون دراسة معمقة لتغطية نفقاتها، والعجز المتراكم دون إصلاح لسياسات إنتاج الطاقة الكهربائية وغيرها من القطاعات.
4- الاقتصاد الريعي القائم على المصرف والعقار والمنشآت السكنية والسياحية الفارغة، وإهمال الإنتاج عبر الزراعة والصناعة واقتصاد المعرفة والتكنولوجيا.
5- عدم إصدار الموازنات السنوية للدولة منذ عام 2005 وحتى العام 2017 والصرف من خارج الموازنة على أساس القاعدة الإثني عشرية المتفلتة من أي رقابة.
6- العجز في الميزان التجاري البالغ 18 مليار دولار للواردات في ميزانية العام 2019 مقابل 2 مليار دولار للصادرات. إلى جانب استفحال الهدر والفساد في جميع المرافق العامة.
وعليه، يطوي لبنان مرحلة اقتصادية كاملة قد تكون من أقسى ما مر به منذ ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990). ولا شك أن المرحلة القادمة ستتحدد أطرها على ضوء ثورة شعبية داخلية ضاغطة وتغيرات خارجية دولية تفرض ثقلها على الميدانيين الاقتصادي والسياسي.