أخبار عربية – مقالات
كتب خالد عليان:
“يا له من مشهد عظيم” …
يصطف المئات من الناس بالمناظير المكبرة لمراقبة ظاهرة كونية تحدث مرة كل عشرات السنين، لرؤية مرور كوكب أو مذنب أو حتى متابعة ظاهرتي الخسوف والكسوف.
واليوم وبين يدي العالم مشهد عظيم لم تبق أذن تصغي أو عين ترى أو عقل يعي إلا ووصله الأمر والخبر، إن لم يصله الوباء والخطر، فهل من معتبر يقرأ ما بين سطور الأوجاع وزحمة الأرقام والإحصاءات في زمن كورونا؟
هل يتنبه العالم اليوم لهذا المشهد الذي جلبه فيروس “كوفيد-19″؟
الجميع على خط المواجهة مع عدو لا يرى بالعين المجردة ولا يميز بين لون وآخر ولا فقير أو غني تبددت فيه فوراق الدين والجنس والقومية والعرق واللغة وأصبحنا كلنا بلا استثناء، في معركة واحدة للدفاع عن الحياة على ظهر الكوكب.
تكتظ البلدان القوية بأسلحة دمار لو رميت على الكرة الأرضية لأحالت الحياة إلى جحيم، لكن الأسلحة ودقتها وتطورها وتقنيتها لا تستطيع أن تعترض مرور هذا الفيروس أو توقفه على حدود بلد ما دون آخر.
ومع كل التدابير التي اتخذتها الدول الغنية والقوية والمتطورة وحتى الفقيرة والضعيفة، إلا أن كورونا هو صاحب السيطرة والتحكم، وفي الطرف الآخر مراكز البحوث العلمية هي صاحبة الكلمة المنتظرة.
ومع ذلك يتبادر السؤال: هل ثمة ما يمكن التقاطه من الدروس والعظات والعبر من فيروس كورونا المستجد؟
وهل وراء هذا الحدث من متغيرات يمكن أن تعيد ترتيب الأولويات والعلاقات الدولية والاهتمامات البشرية؟
في هذا المقال أحب أن أشارككم ما لفت الإنتباه لفوائد ودروس مستقاه من وراء هذا الكم من الخوف والقلق والترقب بعيداً عن الإنشغال بالوقاية والتوعية والبحث عن العلاج، فهناك كثير وكثير من المواقع والمقالات والتحليلات تتحدث بالتفصيل عن هذا وتزيد وتبالغ فيما يندر من يتحدث عن كيف نستفيد من هذا الوباء؟
– وباء كورونا أعطى الدرس الأول للعالم، الذي كان يتماهى في الصغر ويتقارب حد العيش في قرية كونية مصغرة يسيطر عليها نافذ بقوته المالية أو سطوته العسكرية أو خبرته في العيش على التفريق بين الآخرين.
فعندما جاء الوباء وظهر ابتداءً في الصين، برزت مخالب الرأسمالية التي أرادت أن تطيح بالاقتصاد الصيني وأن تتركه يلفظ أنفاسه على مرأى ومسمع من العالم الصامت، وبدأ الحجر على الصين وطال وارداتها وطائراتها وإغلاق الحدود معها، بل حتى وصل إلى الإساءة والتخوف من الصينيين في كل بلد يوجدون فيها.
هذه الأنانية والتعامل مع الوباء باستهتار وشعور بالإنتصار على القوة الاقتصادية العملاقة الصاعدة، جعل العالم يدفع ثمناً ويتعلم درساً بالغاً ليبدأ مرحلة تحول جديدة جعلته أشبه ما يكون بشبكة هائلة من الوحدات المتفاعلة والمتصلة وهو ما يعني أن العالم أدرك بكل قواه أن المجتمع في زمن الوباء واحد دونما فوارق طبقية ولن ينجو منه إلا إذا كان يداً واحدة في مواجهته والانتصار عليه.
– أبرز الدروس الذي قدمها الفيروس التنفسي هو درس النظافة بمعناها الصحيح نظافة الإنسان والملبس والمكان والبيئة وهي معاني غائبة عن التطبيق اليومي في حياة الناس وتشهد استهتاراً في الدول الكبرى والصغرى معاً.
ولم تشتك طبقة الأوزون من تصرفات البشر وحدها فحسب بل يعيش المناخ احتباساً حرارياً وتلوثاً بيئياً ناتجاً عن سلوكيات البشر الخاطئة، ورغم قمة المناخ التي تشهد سنوياً اجتماعاً عقيماً لا يفضي إلا إلى مزيد من الصور الباهتة، لم تتمكن الدول فيها من تثقيف المجتمعات بأهمية البيئة ونظافتها كما عمل ذلك كورونا.
النظافة هي أبرز وأشهر درس يتعلمه إنسان اليوم من فيروس متناهي في الدقة والصغر فتأملوا كم هي الحملات التي تحث على النظافة، كم هو الجهد الذي تبذله الدول لتعليم الناس غسل اليدين، حتى ظهر الأمين العام للأمم المتحدة في رسالة متلفزة يعلم الناس كيف يغسلون أياديهم وبعيداً عن إهداره للماء في الفلاش المشهور عنه، فإن الاهتمام العالمي بغسل اليدين أضحى درساً يومياً نتلقاه عبر الرسائل الهاتفية اليومية والتلفزيونية المتكررة ووسائل التواصل الإجتماعي والمساحات الإعلانية بالإضافة إلى ممارسة السلوكيات والأدبيات البديهية في العطاس أو السعال أو التخلص من الفضلات.
إن نظافة البدن مطلوبة في ظاهر الأمر كما هي نظافة النفس واليد وطهارة القلب في عمق الحديث عن النظافة.
ولكي نعيش بأمان، لابد من تحول هذه السلوكيات الطارئة إلى عادات وقيم مجتمعية، تشكل ثقافة اجتماعية دائمة في المستقبل.
ومع البحث عن النظافة والتعقيم وأدواتهما، نستلهم درساً جديداً إذ لا يصح لدول العالم العربي أن تخلو مصانعهم من الإنتاج في مجال التنظيف والتعقيم والتطهير ولا يليق بها الأعتماد في توفير أدوات الصحة والنظافة على الإستيراد من الخارج، على الأقل يمكننا أن نهتم بهذه الصناعات البسيطة، فقد كشفت الأزمة مدى الحرج في البلدان العربية في الحصول على معقمات وكمامات وأدوات صحية بعد إعلان العديد من دول العالم حظر تصدير المواد الطبية اللازمة، خشية التأثير على المخزون الوطني لها.
– العزلة وهي درس بالغ الأهمية، فقد نجح الفيروس في إعادة التآلف والتلاحم بين أفراد الأسرة والتقى لأول مرة الأبناء مع الآباء في مكان واحد لفترة طويلة يستمعون إلى بعضهم وحتى عرف الأزواج ما تبذله زوجاتهم من جهود كبيرة في التربية والتنظيف وإدارة المنزل وإن ظهرت حالات سلبية هنا أو هناك من تداعي العزل على الوضع الاجتماعي واعتبره البعض حبساً إجبارياً على الرجال أو النساء إلا أن العبرة أبلغ والدرس أعم، فثمة علاقات قاربت على الانقراض بسبب الإنشغال بأعباء الحياة.
ولم يكن الحجر الصحي العام أو العزل المجتمعي خاصاً بالأفراد وحدهم، فقد أعطى درساً آخراً في ثقافة الشعوب أمام الأزمات فعندما استغربنا من دول متقدمة ومتحضرة كيف مسها حظر التجول أو البقاء في المنازل بالهلع، فعمدت إلى إثارة القلق عبر شراء أكثر من احتياجاتها من الأسواق وتكديس المواد الغذائية في المنازل مما خلق صورة لمجاعة محتملة ووضعاً مقلقاً استفاد منه بعض التجار السلبيين عبر إخفاء المواد الهامة وتكديسها في المخازن والتلاعب بأسعارها واستغلال حاجات الناس.
إذا كان هذا حادث في الدول المتقدمة حيث القانون هو الحاكم فكيف الوضع في غيرها وما هو حال الدول الفقيرة والأسر المعدمة؟
لقد كشف الفيروس أن دولاً إسلامية كانت أنموذجاً في أخلاقيات مواجهة الأزمة واحترام التعايش مع الآخرين، أكثر من دول أوربية وولايات أميركية وهو درس تعلمناه في الحفاظ على أمن المجتمع.
– الخوف الذي أفرزه تدفق المعلومات عن الفيروس أعطانا هو الآخر درساً كبيراً ونحن نراقب كيف ساهم الخوف في زعزعة علاقات دول مع بعضها حتى غدت إيطاليا تمثل رعباً لجيرانها في الاتحاد الأوربي، فظهر سلوك غير إنساني في التعامل مع ضحايا الفيروس في هذا البلد المهم من أوربا التي بدورها أغلقت حدودها وأبواب المساعدة والعون أمام الإيطاليين خوفاً من المرض وانتشاره.
والخوف ظاهرة سلبية قال عنها الأطباء إنها تفقد المناعة في الجسم وتقلل من قدرته على مواجهة الفيروس وخاصة المصابين بأمراض مزمنة.
لكننا اكتشفنا أن عدداً كبيراً من وسائل التواصل الاجتماعي ليست مصدراً موثوقاً للمعلومة فقد ساهمت في نشر الخوف وتضخيم الحدث وخلق حالة هلع ورعب من الوباء، عوضاً عن الترويج لحلول وعلاجات وأدوية ووصفات طبية وغذائية غير مدروسة ولا موثقة وفق اجتهادات مروجيها.
لقد تعلمنا أن نواجه المشكلة بلا خوف مهما عظمت، وينبغي اتباع نصائح الخبراء وأخذ المعلومة من المتخصصين، فهذا زمانهم لا زمان المشهورين ونجوم الشاشات والسوشال ميديا خاصة فيما يعنى بالعلاج وطرق الوقاية.
إن الخوف علاوة على كونه ظاهرة سلبية إلا أنه لا يعني أن نتجاهل الإحساس به فنعمد إلى تبسيط الأمر أو السخرية من الوباء وعدم الأخذ بالتدابير اللازمة.
– استطاع الفيروس أن يسهم في تغيير سلوكيات البشر السيئة والتي لم تستطع قوانين الدول ولا أمنها الحد منها، وأبرزها التدخين والمخدرات وتناول الكحول والاستهتار بالنظافة والاكتظاظ في النوادي الليلية والممارسات السلبية الأخرى.
– لفت كورونا الأنظار نحو نجوم جدد كانوا غائبين عن الإهتمام وهم الصحيون والخبراء في المختبرات والباحثون في المجال العلمي والطبي، ودفع الدول أن تفكر بالإستثمار في مجال البحث العلمي والإهتمام بمراكز الأبحاث الطبية وتأهيلها التأهيل المناسب، لتصبح قادرة على تقديم الدعم والمساعدة الطبية اللازمة في حال الأزمات الصحية.
– ومع إغلاق المساجد وحتى الحرمين الشريفين وإغلاق الكنائس والمعابد أيضاً، إلا أن الفيروس جعل الكثيرين يعودون إلى الارتباط بالله ويراجعون حساباتهم، ويتفقدون أقاربهم وأدركوا على اختلاف اللغات والديانات، دولاً وشعوباً وحكاماً وأفرداً، كم هم ضعفاء أمام القدرة الإلهية ما دعا زعماء دول إلى توجيه الدعوات إلى السماء وأن تطلب من علمائها الدعاء واللجوء إلى صاحب القدرة على رفع البلاء.
– التداعيات التي أفرزها الحجر الصحي العام والخاص، من انخفاض الطلب على البترول وتناقص أسعاره، وتهاوي البورصة وانصراف الناس عن الحديث عن الموضة والكماليات والجديد في عالم التقنيات، إلى البحث عن الأمان الغذائي والاستعداد لمواجهة النتائج التي سيفرزها البقاء في المنازل مثل اختباراً حقيقياً لكل رئيس أو زعيم أو حاكم هل ينجح في إدارة الأزمة والحفاظ على شعبيته، أم سيكون في مواجهة غضب وسخط المجتمع.
– في زمن العدو البيولوجي الشرس يمكن أن نخلص في نهاية الكلام إلى أن السيطرة على انتشار هذا الفيروس لا يمكن أن تتم إلا بالتعاون وتبادل الخبرات بين الأسرة الدولية بمختلف أعراقها ودياناتها، وأن علينا أن نتلاحم ونتآلف ونتفاعل اجتماعياً ونفعل الأدوار الطوعية وننشط من عمل النقابات والجاليات والمنظمات المدنية غير الحكومية للقيام بواجبها تجاه المتضررين والمحتاجين لمكافحة الوباء، والتنسيق مع الجهود الحكومية.
– مما لاشك فيه أن العالم سيتغير بعد كورونا وستظهر ثقافة أخرى ستعلم الإنسانية أننا جميعاً مسؤولون عن الكوكب الذي نعيش فيه وأن عزل الدول الغنية عن الفقيرة أو الطبقات المتعلمة عن غيرها لم يعد الحسبة الصحيحة للعيش بسلام، فالمسؤولية المستقبلية ستعيد احتساب وترتيب مفهوم القوة والعلم التي ستبنى على أهمية مساعدة الدول على النهوض وتعزيز البيئة الصحية والتعليمية للمجتمعات الفقيرة وانهاء الحروب وإعطاء فرصة للعيش بسلام كي ننجو جميعاً.