أخبار عربية – بيروت
يكتسح الطحين التركي الأسواق اللبنانية بشكل متنامي وملفت خاصة في السنوات القليلة الماضية وبأسعار تقل عن سعر الطحين اللبناني، ما يطرح عدد من علامات الاستفهام حول نوعية هذا الطحين والسبب وراء كلفته المتدنية التي تخوله أن ينافس الطحين المنتج محلياً وباسعار منخفضة عنه.
وببحث سريع حول الموضوع، نجد أن هذا “التفوّق” الذي يحققه الطحين التركي نظراً إلى فارق الأسعار، يأتي على حساب الجودة، إذ إن المقارنة بينه وبين ذلك الوطني اللبناني لا تستقيم، وهذا ما تؤكده العديد من التقارير التي صدرت عن جهات رسمية عالمية مثل منظمة التجارة العالمية، ودولة الفيليبين، والحكومة الأميركية، التي “وثقت” بما لا يدع مجالاً للشك النوعية “السيئة” للطحين التركي وإغراقه لأسواق متعددة بسبب الدعم الذي يتلقاه من الدولة التركية.
وقد اشتكت دول من تصرفات تركيا حيال هذا الموضوع، فعلى سبيل المثال قالت وزارة الزراعة الروسية إن الحكومة التركية انتهكت قواعد منظمة التجارة العالمية بتقديمها الدعم لقطاع المطاحن في البلاد والذي منح الدقيق التركي ميزة تنافسية في الأسواق العالمية.
أكثر من ذلك، هناك عدد من المطاحن التركية تقوم بخلط القمح التركي المنخفض الجودة مع قمح مستورد من دول أخرى حتى يصبح مطابقاً للمواصفات وتقوم بعد دلك ببيعه وتصديره.
وما يزيد الأمر سوءاً هو الالتفاف اللبناني على معيار جودة الطحين في سبيل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، وذلك عن طريق خلط الطحين التركي (بنسبة 70 في المئة) مع الطحين اللبناني (30 في المئة) بهدف تلبية معايير الجودة.
هذا ويستورد لبنان آلاف الأطنان من الطحين التركي سنوياً، وقد وصل الاستيراد إلى 40 ألف طن في العام 2016 ليتضاعف في العامين الماضيين.
وتشير الأرقام إلى أن كل 50 ألف طن من الطحين التركي ينتج 55 مليون ربطة خبز في الكيلو الواحد ويعادل أيضاً 165 مليون “منقوشة”، أي ملايين الأرغفة والمناقيش الغير مطابقة للمواصفات، فهل وصلت الأمور لهذا الحد؟ هل أصبح على اللبناني أن يفكّر في جودة رغيف الخبز الذي يأكله على الرغم من أن الطحين اللبناني يعتبر من أجود الطحين المنتج في المنطقة؟
تهديدٌ مضاعف
انطلاقاً مما سبق، يصبح من المؤكد أن ضرراً فادحاً يصيب مختلف المطاحن العاملة في لبنان، ويصل بالتالي إلى آلاف العاملين فيها، علماً أن إحدى المطاحن خرجت مكرهة من السوق، ومطاحن أخرى باتت اليوم مهددة بصورة جدية، نظراً لحجم حركة السوق المحلية التي لم تعد تشكل سوى الخمس من حجم طاقتها الإنتاجية، بالإضافة إلى تعرضها أساساً إلى مصاعب إذا أرادت التصدير بسبب الشروط الإدارية المتحكمة بها.
وما يضاعف التهديد الذي تتعرض له المطاحن هو طلب الدولة اللبنانية منها تأمين احتياط طحين يكفي لاستهلاك السوق اللبناني لفترة لا تقل عن أربع أشهر، تفادياً لأي انقطاع في الخبز أو المواد الأولية الغذائية، عند حصول أي حالة طارئة، أو حدث أمني في لبنان، وهو ما تلتزم به المطاحن اللبنانية حتى اليوم، إلا أنه بات بدوره مهدداً بسبب المنافسة غير المتكافئة بين طحين مدعوم بشكل مباشر من الدولة التركية، وسوق لبنانية مباحة للإغراق.
ولا يقف هذا التهديد عند حدود رغيف الخبز، بل يطال قطاع المواشي والأعلاف أيضاً، كما يقول المعنيون، موضحين أن قشرة القمح المتبقية من الطحين أي النخالة، تستخدم كعلف للحيوانات، وبالتالي يستفيد منها القطاعان الصناعي والزراعي كونه يخفف كمية وكلفة استيراد الأعلاف، وتنتج المطاحن اللبنانية كميات كبيرة منها تصل إلى 7000 طن في الشهر.
ليس أولوية؟!
يرفض المعنيون السكوت عن الواقع الذي وصل إليه القطاع، حيث يسعى عدد منهم منذ فترة من أجل حثّ الجهات المعنية على أخذ الخطوات اللازمة من أجل وقف تنامي هذه المشكلة والعمل على حماية صناعة الطحين المحلي الذي يعتبر من أفضل الطحين المنتج في المنطقة.
إلا أن المشكلة في هذا الإطار، بحسب السيد بول منصور صاحب مطاحن التاج، تكمن في أنه وبالرغم من التأييد الرسمي العلني من قبل الجهات الرسمية المعنية بالملف لمطالب أصحاب المطاحن المتعلقة بهذا الموضوع، إلا أنهم لم يترجموا ذلك من خلال أي قرار لمعالجة المشكلة التي تتفاقم أكثر وأكثر يوماً بعد يوم بالرغم من أن ما هو مطلوب منهم بحسب السيد منصور يعتبر واحد من أبرز واجبات أي دولة، وهو حماية الصناعة المحلية وتأمين شروط تنافسية عادلة بين ما هو مستورد وما هو مصنع محلياً، خصوصاً أن كلفة طن الطحين على المطاحن تتراوح بين 363 و425 دولاراً فيما يُباع اليوم بـ 353 دولاراً، ما يكبد أصحاب المطاحن خسائر فادحة.
ويقول منصور: “مطلبنا محدد وهو أن تكون الدولة بوازاراتها عادلة مع أصحاب المطاحن، وتعاملهم بمساواة مع المستورد الأجنبي”.
ولا يشكل هذا الأمر سوى غيض من فيض المنافسة غير المتكافئة التي يتعرض لها الطحين اللبناني، لجهة الشروط المفروضة عليه، مقارنة بالتسهيلات المقدّمة بالنسبة للاستيراد.
فعلى سبيل المثال، تخضع المطاحن اللبنانية لكشوفات وفحوصات دورية وتدابير رقابية مشددة من قبل الوزارات المعنية، بينما لا يطال الطحين المستورد أي من هذه الإجراءات، سوى كشوفات بسيطة مخبرية عند دخول البلاد من دون أي متابعة على نوعية التخزين، والنقل لتأمين سلامة الطحين المستورد.
كما أن الطحين المستورد لا يخضع للشروط المطبقة على القمح من استيراد وتخزين وتعقيم سيارات النقل وإعادة الكثير من التحاليل المخبرية كل شهرين ومراقبة مستودعات الطحين، وهي شروط ترهق أصحاب المطاحن وترفع الكلفة التي يتكبدونها، وبالتالي تعيق قدرتهم التنافسية.
إلى ذلك، فقد بدأنا مؤخراً نسمع بالمطالبة بالعمل على تسجيل كل المطاحن التركية التي تصدر الطحين إلى لبنان في وزارتي الاقتصاد والتجارة والصناعة للتأكد من مطابقتها للمواصفات والشروط التي يخضع لها الإنتاج الوطني من الدقيق، شأنها في ذلك شأن المصانع اللبنانية.
ويبقى السؤال إلى متى تستمر الدولة بتجاهل الأزمة؟ وهل تتحمل التداعيات الممكنة لمثل هذه السياسة؟!